منى حاطوم: اضطراب

بقلم سام بردويل وتيل فلراث

ترجمة ففيان حمزة وسناء اليونسي

المشاركة مع صديق

تاريخ النشر: 20 أغسطس 2018، [تمت المراجعة في 10 نوفمبر 2025]

"الفلسفة هي النقيض التام للراحة والطمأنينة، إنها اضطراب، الاضطراب الذي يدور الإنسانُ في فلكه، بحيث تكون تلك هي الطريقة الوحيدة لفهم الوجود البشري دون أوهام."1

الاضطراب كمجاز

هذا ما قاله هايدغر في توضيح الغرض الأساسي الذي تؤديه الفلسفة في النشاط البشري: تساؤل عميق عن كل ما قد يفترض أنه نهائي وثابت.

وهذا ما يحقّقه فن منى حاطوم. بدءاً من العناصر الصغيرة الجاهزة (ريدي -ميد) انتهاءً بأعمال التركيب الهائلة والغامرة، من أعمال الأداء الملتزمة سياسياً إلى الأجسام نحتيّة الشكل، يرفض عملها الغزير الركون إلى الراحة والطمأنينة اللتين توفّرهما الرتابة. فمن جانب أوّل، تُصرّ أعمالها على قلب روايات وتصنيفات تاريخ الفن المشار إليها في الأعمال رأساً على عقب، وتبطلُ، من جانب آخر، القدرة على الاسترجاع والتفاعل الجسديّ التي يتشبث بها المشاهد في محاولة لتحديد، أو حتى السيطرة على، ذلك الالتباس العاطفيّ والفكري الذي وُضعَ فيه.

على هذا النحو، يطرح عمل حاطوم الاحتمال، ليس فقط بصفته المرادف الفلسفي لليقين البديهي المطلق، بل ككاشف لآفاق من التجربة يصبح فيها الشك مدخلاً نحو فهم جديد للوجود الإنساني. "أريد أن أخلق حالة يكون فيها الواقع في حد ذاته نقطة تساؤل، حيث يتوجب على المشاهدين أن يعيدوا النظر في افتراضاتهم وبعلاقتهم بما يحيط بهم."2 قالت حاطوم ذات مرة في وصفها الدافع المفاهيمي الذي يشكل جزءاً أساسياً من عملها. "أفضل الفنون هو الذي يعقّد الأشياء أمامك بالكشف عن تناقضات مستحيلة، تجعلك تشكك في افتراضاتك حول العالم بحيث تغادر حاملاً أسئلة أكثر من الأجوبة."3

من هذا المنظار، اختير عنوان "اضطراب" ليكون مدخلاً إلى فهم متجدد لعمل حاطوم؛ كناية رمزية لهذه الحالة من التراوح بين اليقين وعدمه، كما يشرحه إدوارد سعيد، "الألفة والغرابة حبيستان معاً بأغرب الطرق، متجاورتان ومتضادتان في الوقت ذاته."4 لذا يُقصد بـ"اضطراب" أن يكون عنواناً لقصة رمزية. قصة لحالة عصيبة، تعيش شخصياتها، المشاهدون، نوعاً من التأرجح المتواصل بين الوضوح الذي يوفره المألوف والإبهام الناتج عن الغرابة.

من الواضح أن بعض الاهتمامات الشكلية والرموز المفاهيمية قد تغلغلت في أعمال حاطوم لحوالي ثلاثين سنة ونيف. لقد تم بحث هذا الموضوع وتشريحه بشكل مفصل من قبل العديد من النقاد والقيمين ومؤرخيّ الفن على حد سواء. وضعت تأمّلاتهم عملها ضمن سياقات تفسيرية متنوعة. تعمّق بعضهم في الجانب السياسي الصريح، مثل تأكيد سلوى مقدادي على نكبة 1948 الفلسطينية وتداعياتها كنقطة أساسية للولوج إلى العديد من أعمال حاطوم."5 وركز البعض الآخر في المقام الأول على الجوانب الشكلية الصرفة في أعمالها، لكن دون إهمال الجانب السياسيّ، مثل إشارة باتريشيا فالجيريس إلى الحداثة، وبالأخص إلى مينماليّة سول لويت ودونالد جود، في مداخلتها «استخدام حاطوم التكتيكي لمعايير تاريخ الفن» "6، وذلك على الرغم من أن تاريخ الفن هذا يظل، وفقاً لمرجعيات فالجيريس، غربياً بشكل حصري لا ريب فيه.

نظراً لتعقيدها الهائل، وجدت هناك بلا شك بعض الاستقراءات غير المدروسة أو غير الموثّقة التي فُرضت على أعمال حاطوم، مثل التشبيه المُقحم للتعريشات في عمل «تيار خفي» (آندركورنت)» (أحمر، 2008)، أو حتى الأكثر عبثيّة تشبيه الالتفافات العضوية لشعيرات الدم في عمل «بيض غنم» (1996) ودوامات الشعر الرغويّة على ظهر رجل في عمل «ظهر فان خوخ» (1995)، بالزخرفات العربية العضوية التي "تدمج لغته الشكلية بين نظم الرموز العربية والأوروبية داخل وحدة جمالية."7

تطلبت كثافة أعمال حاطوم كذلك طرق تفسير متعددة التخصصات مستعارة من اختصاصات قريبة أخرى تتعدى نطاق النقد الفني والبحث التاريخي. لنأخذ على سبيل المثال تحليل كيارا برتولا المقارن عندما حاولت تفسير أشكال حاطوم الهجينة بتشبيهها "التحوّل الكامن في أعمالها، بمفهوم التحوّل لدى ديدرو، حيث مفهوم الشكل ليس معطى ثابت."8 في نصّ آخر بعنوان «في البيت وبعيداً عنه: سريالية منى حاطوم الغريبة»، إنتقت أليكس أوهلين ترابطات معيّنة بين عملي الفنانة «جسدٌ غريب» (1994) و«الفارمة الكبيرة» (مولي جوليان ×21) (2000) وبين روايتي فرانز كافكا «المسخ» و«مستعمرة العقوبات» على التوالي، من أجل توضيح الإشارة إلى أن أعمال حاطوم، على غرار كافكا، "تسكن واقعاً بديلاً تتخذ فيه الحياة العادية أشكالاً حُلميّة "9 بناءً على لتجربتها في النزوح.

استجابةً لهذا الكم الهائل من المواد، كان اختيار "اضطراب" عنواناً لهذا المعرض، إضافة إلى كونه مستعاراً من أحد أعمال حاطوم التركيبية، بمثابة انعكاس في المقام الأول لرغبة القيمين في توفير قراءة مميّزة لأعمالها، تستند إلى الحقل النقدي الذي سلطت عليه الأضواء في بعض المراجع السابقة وتعمل على توسيعه. يقترح مفهوم الاضطراب، كإطار اصطلاحي لهذا المعرض، الخروج بعيداً عن خيوط التفسير التي استُخدمت مراراً وتكراراً بهدف حصر أعمال حاطوم ضمن مجموعة من الحقول واضحة المعالم. "رغم أن منى حاطوم قد استخدمت مجموعة كبيرة ومتنوّعة من الوسائط، فقد حافظت ببراعة على الاستمرارية في المواضيع المُعالجة، ومن ضمنها: تحديد معالم الواقع على هامش الرؤية، إشكاليّة في فهمنا للغيرية والمكان والزمان، تخريب الخصائص الشكليّة للأعمال الفنية، وهو إجراء قائم على اقتصاد الخسارة، وإعادة تشكيل التصورات عن الأنوثة."10

تلك هي واحدة من العديد من التأكيدات المماثلة التي طالت عمل حاطوم وتستمر في عرضه ضمن أطر محدودة الثنائية الأقطاب، الغارقة في الجانب الظاهريّ بين الوطن والمنفى، الحراك والجمود، الشكلية الصرفة والخطاب السياسي، الرضوخ المنزليّ والتحرر النسوي.

لذا، بدلاً من المكوث ضمن الصيغ القائمة، ومع مراعاة المحاور الشكلية والدلالية والسيرة الذاتية، التي غالباً ما تتداخل وتتقاطع في أعمالها، يتبنّى هذا المعرض مفهوم وطبيعة الاضطراب كمنظار بديل يتيح إعادة هيكلة فهمنا؛ فهم مستنبط من النهج الذي طبعَ أعمال، وإلى حد ما، حياة الفنانة. وهكذا، يؤدي الاضطراب دورَ القالب الجدلي المدبّر، ليكون وسيلة لتحدي نظرة المشاهد ولإعادة توجيهها. من وجهة نظر القيمين، تم تصميم هذا المعرض كاستعارة لابراز ثلاثة محاور رئيسيّة ، تتطلب بدورها إلى إجراء التداخل المناسب تبعاً لمكان والمعرض وزمانه.

tbc

الاضطراب كتعقيد لتاريخ الفن

الدلالة الأولى لمعنى الاضطراب على النحو المنشود في هذا المعرض هي تلك الحالة التي تقع عند مفاصل القطيعة في التصنيفات الراسخة في تاريخ الفن. أدّت الطريقة التي تُفهم عبرها أعمال حاطوم والتي تُعيد فيها تخصيص وابتكار أساليب تاريخ- فنيّة مُعيّنة، إلى التمازج بين ما هو شكلي صرف وما هو سياسي بطبيعته. على سبيل المثال، كفّت بعض الأعمال التي تبدو مينماليّة عن أن تكون ذاتية بشكل حصري، وأُثيرت بالوعي ببعض القضايا الاجتماعية السياسية. إن المكعب في عمل «منيع» (2009) والشبك في «حكم مخفف» (1992) والخصائص المشابهة لنمط باوهاوس في سلسلتي «ملجأ» (2011) و«برج» (2010 – 2011) يشكّلون انعكاساً لكيفية اشتقاق الجوهر الجمالي في العديد من أعمال حاطوم من أساسيّات الحداثة. بل، على عكس كيفية استعمال هذه الأشكال وغيرها فيما مضى، ترفض حاطوم أن تقبل بنزوع الحداثة نحو الموضوعية ودعمها المستمر للشكل كوسيط ورسالة على حد سواء. بدلاً من ذلك، تعمل حاطوم على ابتكار "لغة خاصة بها وحدها. إنها لغة مرنة، تسمح لمستويات مختلفة أن تتفاعل بين بعضها. لغة تدور بين صرامة الشكل والدقة المفاهيمية والوعي السياسي."11

على مستوى آخر، وعلى سبيل المثال، كثيراً ما رُبط فن حاطوم بالسوريالية، وذلك عائد جزئياً لطريقة اعتمادها على تحريف المقاييس وإدماج مواد غير تقليدية، في القطع الجاهزة (الريدي ميد) ومنحوتات تُشاكل الخطر وتحوّر الإيروتيكيّ وتحث على غير المألوف أو المُريب. "12 غير أنّه عند الإشارة إلى علاقة السوريالية بصناعة الصورة من حيث أن "الصورة لا يمكن أن تولد من مقارنة بين واقعين متباعدين، أو أكثر، بل من جعلهما متجاورين"13، فإن مقصد حاطوم، على عكس السوريالية، لا يتقصر على إطلاق العنان لآليات اللاوعي الجامحة، ولا يغوص أصلاً في مبادئ علم النفس الفرويدي. بل على العكس، تقلب حاطوم ببراعة حيل التناقض السوريالية لخلق بيئات يقينية أو مُتلاعبة أحياناً، بهدف تعميق تساؤلاتنا حول "الوجود البشري دون أوهام"، على حد تعبير هايدغر مرة أخرى. تشكّل أعمال مثل «كراسي سبرايغ» (انتهاء العمل، 2001) وبدون عنوان (كرسي متحرك 2، 1999) و«طبيعة صامتة» (خزانة طبية، 2012) تمثيلاً جيداً لهذا البعد في فن حاطوم.

إلى جانب منحنا وصفاً لكيفية نجاح حاطوم في زعزعة تصنيفات تاريخ الفن الجامدة، يهدف "اضطراب"، من وجهة نظر القيمين، لأن يُشاهد كمناورة تنقيحيّة تواجه المعايير التي بُنيت عليها تأريخات الفن الحديث والمعاصر المهيمنة. إذا كان هدف "متحف" هو تقديم منظور عربي في للفن الحديث، فمن الضروري أن تتجاوز مفاهيمنا حول الحداثة، وبالتالي فهمنا للمعاصَرة، السرد الغربي الحصريّ الذي لم يزل يزوّدنا بقوانين جاهزة. لذا، على سبيل المثال، عند مناقشة معالجة حاطوم لمجاورة الأضداد في السوريالية لدى صناعتها لفن معني بشؤون الواقع، يمكن في هذا الخضم إدخال نشاطات جماعة «الفن والحرية» القاهرية (تأسّست في 1939) ذات التوجّه السوريالي. "عند التفحّص بدقّة، يتبين بوضوح أنهم في تعاملهم مع المناهج غير التقليدية وتكييفهم لها في تصميم المعارض والعرض، مناهج وظّفها نظراؤهم السورياليون خصوصاً في باريس ولندن في الثلاثينيات، فإنهم كانوا أكثر نجاحاً في خلق قطيعة داخل البنى الثقافية والسياسية التي سعوا إلى إصلاحها."14

لنذكر أيضاً على سبيل المثال ظاهرة شكليّة أخرى يُشار إليها مراراً في أعمالها، ذلك عندما "لوّثَت" حاطوم المينماليّة بأسئلة حول الهوية، أسئلة مستنبطة من خصوصية خلفيتها، أليس من الوارد أن نتذكّر هنا أيضاً المنماليّة الهندسية في عمل رسام مثل صليبا الدويهي، والذي تصرّ لوحاته التجريدية ظاهرياً على أن تكون تجسيداً مقنّعاً بشدة لموقع معيّن في موطنه الأصل لبنان؟ إنّها أمثلة مهمة على أفعال سابقة من التعامل الواعي والتي تُختزل عادةَ إلى مجرّد توظيفات. بالاعتراف بذلك، خصوصاً في إطار نقاش تأريخي-فنيّ متمحور حول فنانة مثل حاطوم، لا بد من المبادرة إلى إجراء عملية عكسية، ستكون بلا شك مضطربة، تسمح بنزع مركزيّة إنتاج تاريخ الفن والخطاب السائد الذي يحيط بالحداثة والذي يعتبرها اختراعاً غربيّاً في الأصل، جرى استيراده مع تأثير أدنى من قبل أجزاء أخرى من العالم.

إن إعادة بناء الماضي النقدية هذه، رغم أنها مُرهقة، هي مهمة لا مفرّ منها من أجل إعادة بناء السياق الحاضر. قد يتمّ الاعتراض على هذا المسعى، حيث قد يُطرح السؤال حول: ما هي القواسم المشتركة بين فنانة مثل حاطوم، على سبيل المثال، وأعضاء جماعة "الفن والحرية" أو صليبا الدويهي. لا شيء وكل شيء! لا شيء، إذا كان المراد هو مواصلة بناء تاريخ خطي مبسط للتصنيفات والمراحل والأساليب الفنية. وكل شيء، إذا تمكنّا من استخلاص أوجه التشابه الغريبة في الميول بين فناني الماضي وفناني الحاضر؛ إذا كان بالإمكان بلورة تقديرهم للتشابه الكامن، ليس في الفن بحد ذاته، بل في الموقف الذي طوّرته كلتا المجموعتين من الفنانين حول كيفية صناعة الفن، ومصادر الاستلهام المشروعة وكيفية التمكّن من إعادة اختراع هذه الأخيرة لتتلاءم بدورها مع سياقات اجتماعية وسياسية معيّنة."15

tbc

 

tbc

 

tbc

 

اضطراب: الخلط بين الشخصي والجماعي

لطالما ارتبط تاريخ منى حاطوم الشخصي مع المقصد الدلالي من وراء عملها. غالباً، وحتى في أعمالها الأقل اتّساماً بالدلالات السياسية، تمحورت التأويلات حول مفاهيم المنفى والهوية السياسية والحنين للوطن. "عملها هو تقديم للهوية كعجز عن التماثل مع ذاتها،" كما شرح إدوارد سعيد، مضيفاً: "إنّه يعبّر عن تفكك جوهري لدرجة أنّه يهاجم، ليس فقط ذاكرةَ ما كان، بل إلى مدى منطقيّة وإمكانيّة هذا التكوين الجديد لمحيط مألوف وأشياء مألوفة، وإلى أي مدى هو بالفعل قريب، ومع ذلك بعيد، عن موطنه الأصل."16

مع أن حاطوم لم تنفِ يوماً الترابط المعقد بين خلفية الفرد وإنتاجه الفني، فهي عبّرت في أحيان كثيرة، ومنذ بدايات مسيرتها، عن اعتراضها على التأطير الثقافي الذي يختزل أعمال الفنان إلى مظهر مبسّط وحَرفي من مظاهر سيرته الشخصية. "في العروض الأدائية الأولى، كنتُ أرى نفسي شخصاً هامشياً يجري مداخلاته على هوامش عالم الفن، وكان يبدو منطقياً أن أستخدم الأداء كوسيلة نقد للمؤسّسة. وبعد مدّة، لم أعد راضية عن التوجه الخطابيّ الواضح، ولم أعد بعد ذلك متأكدة ما إذا كانت الأعمال التي أنجزها هي فعلاً ما أردت فعله، أم إنها نتيجة تبني لتوقّعات الآخرين وقولبتي في صيغة فنان مسيّس. إنه خط رفيع جداً. أردت أن أقدم أعمالاً تعطي الأولوية للجوانب الماديّة والشكليّة والبصريّة في صناعة الفن، وأحاول أن أعبر عن السياسي من خلال جماليات العمل."17

رغم صياغة حاطوم الحذرة لسيرتها الذاتية ضمن عملها الذي يُعنى في المقام الأول بالبعد الجمالي، ما تزال هناك قراءات محددة مسبقاً لعملها تدور حول مواضيع سياسية بشكل صريح مثل المنفى والهجرة. رداً على ذلك، يودّ هذا المعرض مخالفة التأطير الذي يحصر المنفى بكونه مأزقاً يرتبط بشدة بتاريخ حاطوم الشخصيّ، ودعوة المشاهد إلى إعادة النظر فيه بوصفه تاريخاً من الاغتراب المتشابك بعمق مع تجربة الحداثة. لقد أفضى هوس بالسيولة إلى تحوّل كبير في تجربة الفرد مع مفهوم الموطن. في عالم تسوده العولمة، حيث أصبحت الرحلات ممكنة، ليس عبر الحدود الجغرافية فحسب، بل كذلك من خلال الانتشار الغزير لتكنولوجية الاتصالات العالمية، فإن الافتراض المسبق بأن أية ثقافة هي من صنع حفنة مغلقة من التقاليد والممارسات المحصورة في مكان محدد بوضوح، لم يعد صالحاً. في النتيجة، " تحوّل في العصر الحديث معنى الوطن من كونه المأوى الذي يوحّد الوعي الثنائي للذاكرة والمصير من خلال التراث، إلى وعاء يضمّ ما لا يحصى من الممارسات والارتجالات."18 في المقابل، لم يعد من الممكن اعتبار الهجرة والمنفى كخطر محفوف مآسي الرحيل وأحلام العودة الناتجة عن النفي السياسي، لأنهما أصبحا، بدلاً من ذلك، كنايات عن مجموع الانقطاعات السائدة في الزمن الحديث. وبالتالي، لم يعد المهاجر هو وحده من يتعرض إلى النزوح الجغرافي نتيجة المعاناة السياسية والاقتصادية، بل أي فرد عاش نوعاً من القطيعة بسبب "حالة القلق الحديثة حول مفهوم الأصالة والصراع من أجل المعنى في الحداثة."19 وقد وصف جون بيرجر ذلك بأفضل صورة عندما كتبَ: "فعل الهجرة هو دائماً فعل تفكيك لمركز العالم وبالتالي الانتقال إلى إحدى شظاياه الضائعة والمضطربة."20

هكذا، يكون النظر إلى تاريخ الحداثة كمثيل واحد ومطابق لتاريخ المنفى، بمثابة هدم للحدود التي تفصل السير الشخصية عن الجماعية. يمكن لمعرض «اضطراب» أن يشكل دالّاً على هذا الهدم وذلك الالتباس الذي ينشأ من الخلط بين الشخصي والعام. سوف يحرّر ذلك أعمال حاطوم على الأرجح من عبء حمل مواصفات الضحية في المنفى، ويسمح للمشاهد بأن يراه كاستعارة رمزية لمختلف نطاقات النزوح في الحداثة. وهنا، يصبح عمل مثل «طُرق» (2003) أقرب إلى رسم ملامح للزوال كظاهرة حديثة، بدل أن يكون تتبع لرحلات الفنانة. ويكف عمل «بيت» (1999) عن تلقي تفسيرات بدائية تقتصر على خسائر حاطوم الشخصيّة وتوقها إلى البيت، بل كتجسيد للحوار الكوني حول ماهية البيت، ليس للمقارنة بموقع جغرافي محدد، بل، ووفقاً لعبارات ميرسيا الياد "موقعاً للمصالحة الوجودية بين الزمان والمكان."21 وعلى هذا النحو، يمكن لأعمال يغلب عليها الطابع الشخصي مثل «أبعاد المسافة» (1988) و«مشهد داخلي» (2008) أن تكتسب معان أشمل وتتحول إلى سفن تجسد الشعور بالغربة والاغتراب الذي نختبره جميعاً إزاء الخسارة والانفصال.

tbc

 

tbc

 

tbc

 

اضطراب: توجه القيّمَين مرتكزاً للمعرض

يُجسّد "اضطراب" المنهجيّة في تصميم المعرض مُجسّداً كيفية توزيع الأعمال في فضاء المعرض بشكل يعكس الطبيعة التجريبية في أعمال الفنانة. صُمّم المعرض ليشكل بمجمله عملاً تركيبياً واحداً من أجزاء مختلفة، تجمتع فيه الأعمال المختلفة المعروضة لتعكس معنى شمولياً للاضطراب المستمد من التناقضات الشكليّة الخاصة بكل عمل، وكذلك التوتر التراكمي المُعزّز بطريقة العرض المدروسة بعناية. استنبطت فكرة المعرض وعنوانه من أحد أعمال حاطوم؛ «اضطراب» (2012)، وهو عمل تركيبي على شكل مربع بحجم 4×4 أمتار يتألف من آلاف من الكرات الزجاجية المصفوفة مباشرة على الأرض. وُضعَ هذا العمل التركيبي في وسط المعرض تحديداً ويقع في قلب مسار خطي، إنما غير زمنيّ، بحيث تعكس عبره التجاورات العديدة غير المتوقعة، التعقيد الذي تمكنت الفنانة من خلاله أن تتحدى وتُسائل أحياناً تجربتنا لما هو عادي. على سبيل المثال، وُضع عمل «طبيعة صامتة» (خزانة طبية) (2012)، بالقرب من عمل آخر مصنوع كذلك من الزجاج، هو «صمت» (1994).

إلى جانب التنوع الكبير للخصائص الشكلية الواضحة في معالجة واستخدام الزجاج واختلافها بين العملين، فإن وضعهما الواحد في مجال رؤية الآخر يضاعف من تشويش كلّ منهما على الآخر، ما يعزّز بدوره الشعور بالقلق في مجمل المكان. لنأخذ مثالاً آخر، «أعمال طرق» (1985) هو وثائقيّ لأداء أجرته حاطوم في بدايات مسيرتها، تظهر فيه وهي تسير حافية القدمين في شوارع بريكستون بينما تجر خلفها حذاء ضخماً من طراز د. مارتنز، مربوطاً بكاحليها. تقرْر عرض الفيديو على شاشة موضوعة على الأرض قرب أحد الجدران الجانبية لصالة العرض الرئيسية داخل المعرض. عند دخوله تلك الصالة، يواجه الزائر بما يبدو وكأنه مدينة تتألف من عدد من القطع الضخمة من سلسلتي «برج» (2010 – 2012) و«ملجأ» (2011) موضوعة بشكل مفزع في الوسط. يبرز التناقض الهائل بين ضخامة وموضع المنحوتات الكبيرة والشاشة القزمة، النسبيّة المكانيّة لكلّ منهما. علاوة على ذلك، يمكن للزائر أن يقرأ في هذا التجاور محاولة إعادة تمثيل المشهد حيث يحاكي السير بين تلك الهياكل في الوقت الراهن أداء الفنانة عام 1985.

لنعطي مثالاً آخر، «مُعلّق» (2011) هو عمل تركيبي يتكون من 35 أرجوحة معلقة الواحدة قرب الأخرى ومثبتة في السقف وهو أحد عملين فقط مركبين في صالة طويلة وضيقة. العمل الآخر هو «اضطراب» (2012). إلى جانب الشعور بالتوتر المتوالد من التناقضات البصريّة الصارخة بين العملين، فأحدهما معلق في السقف عمودياً بينما ينبسط الآخر أفقياً على الأرض؛ أحدهما متحرك والآخر جامد، يتضاعف القلق لدى الزائر عندما يسير داخل مساحة عرض الأراجيح المعلقة لأنها تبدأ حتماً بالتأرجح. تزيد حركة الأراجيح، التي كانت قبل دقيقة فقط جامدة مثل الكرات المنبسطة على الأرض، إدراك الزائر لمدى هشاشة العناصر المحيطة به وكيف أن وجوده في الصالة يمكن أن يؤدي إلى تفكيك الكرات الزجاجية التي تبدو ثابتة والمنبسطة أرضاً على بعد بضع خطوات. تسمح تجاورات من هذا النوع بعيش تجربة جمالية مكثفة، مغرية وصعبة الولوج في آن معاً، أو، بعبارة أخرى، مضطربة.

الاضطراب كواقع

شهدت السنوات الثلاث الأخيرة تقريباً انتعاشاً لنقاش يثير الكثير من الجدالات حول الفن والالتزام السياسي. مع أن الاستعارات الاجتماعية والسياسية ارتبطت مراراً بالإنتاج الفني في العالم العربي، لا شك أن عودتها الحادة الآن قد نتجت عن التغيير المستمر المحفوف بالصراعات والذي أطلق عليه اسم الربيع العربي. تبعاً لذلك، استسلم العديد من الفنانين لإغراء صناعة فن مُسيّس بشكل صريح وإن لم يكن بالغ النضج من ناحية الشكل. ليست هذه المناسبة الأولى التي يتقاطع فيها محورا صناعة الفن والنضال السياسي، ومن المرجح كثيراً ألّا تكون الأخيرة. مع ذلك، يقف هناك على تلك العتبة عدد ضئيل من الفنانين ممن نجحوا برسم خط فاصل بين الاتجاه السياسي والصفاء الفنيّ؛ حاطوم هي واحدة منهم. بينما تتناول أعمالها مع قضايا النزوح، فهي لا تغض الطرف أبداً عن الطبيعة المادية لتلك الأعمال. وبينما تواصل التفكير في مواضيع سياسية بحتة تتعلق بالحالة الإنسانية عموماً، فإنها لا تكف عن توسيع نطاق الصفات الشكلية والمادية لتعبيرها الفني. لذا، فإن "حصر أعمال حاطوم ضمن إطار جيوسياسي معين هو تقليل مؤسف لشأن التأثير المادي لما يحدث عندما يصبح الشكل بحد ذاته تعبيراً، بالمعنييَن المادي والمفاهيمي على حد سواء."22 أو، فلنقل وفقاً لعباراتها: "عندما انتقل فني من التوجه السياسي الخطابي الصريح إلى موقف يطرح الأفكار السياسيّة من خلال الشكل والجماليات، أصبح العمل أقرب إلى منظومة مفتوحة."23 مرّت سنتان منذ أن باشرنا هذا التعاون مع منى عن قرب. كنا في افتتاح أحد معارضها عندما ولدت فكرة العمل سوية، ومنذ ذلك الحين بدأت رحلة جادة من التطوير والتبادل. لا شك أن فهمنا لأعمالها قد نتج عن توجيهها الدؤوب؛ فالإصغاء إلى منى ومشاهدتها وهي تتحدث عن فنها هو شرحٌ تقريريّ وساحر في آن. وأمّا عملها، فهو ينبع باستمرار من مكان من الدهشة، حيث يدفعها رفضها للركون إلى المألوف، نحو آفاق جديدة.

"لا تبدأ من الأشياء القديمة الجيدة، بل من تلك الجديدة غير المستحبة "24، كما قال بريخت يوماً، وذلك هو الحافز الاستقصائي القابع في صلب أعمال حاطوم، وهو، بكلمة واحدة، اضطراب.

المصادر

  1. مارتن هايدغر، The Fundamental Concepts of Metaphysics: World, Finitude, Solitude (مفاهيم الميتافيزيقيا الأساسية: العالم، الزوال، العزلة). إنديانا: منشورات جامعة إنديانا، 1995، ص. 19.
  2. منى حاطوم، مقابلة أجرتها جانين أنتوني، Mona Hatoum (منى حاطوم). عمّان: مؤسسة خالد شومان، دارة الفنون، تشرين الأول/ أكتوبر 2008، ص. 22. نشرت المقابلة أولاً في مجلة Bomb، نيويورك، العدد 63، ربيع 1998، ص. 54–61.
  3. منى حاطوم، مقابلة أجرتها فرشته دفتري، Here is Elsewhere (هنا هو مكان آخر). نيويورك: متحف الفن الحديث، 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2003 – 4 شباط/ فبراير 2004.
  4. إدوارد سعيد، Mona Hatoum: The Entire World as a Foreign Land (منى حاطوم: العالم بأكمله كأرض غريبة). لندن: غاليري تيت، 2000.
  5. سلوى مقدادي، States of Being in Mona Hatoum’s Work (حالات الكينونة في أعمال منى حاطوم)؛ Mona Hatoum (منى حاطوم). عمّان: مؤسسة خالد شومان، دارة الفنون، تشرين الأول/ أكتوبر 2008، ص. 59–73.
  6. باتريشيا فالجييرس، Disbelonging; Mona Hatoum: Shift (فقدان الانتماء؛ منى حاطوم: التحوّل). برلين: غاليري ماكس هتزلر ومنشورات هولتزفارت، 2012، ص. 68.
  7. راينالد شوماخر، Arabesques and Narrative Grids; Mona Hatoum: Double Sound – Organic (منى حاطوم: صوت مزدوج – زخرفات عربية عضوية وشبكات سردية)؛ Mona Hatoum (منى حاطوم). ميونخ: منشورات ساملونغ غوتز وهاتيي كانتز، 2012، ص. 45–49.
  8. كيارا برتولا، Mona Hatoum. Unstable, Living, Organic and Moving Form (منى حاطوم: أشكال مزعزعة وحيّة وعضوية ومتحركة)؛ Mona Hatoum: Interior Landscape (منى حاطوم: مشهد داخلي). ميلانو: شارتا، 2009، ص. 21.
  9. أليكس أوهلين، Home and Away: The Strange Surrealism of Mona Hatoum (في البيت وبعيداً عنه: سريالية منى حاطوم الغريبة)؛ Mona Hatoum (منى حاطوم). عمّان: مؤسسة خالد شومان، دارة الفنون، تشرين الأول/ أكتوبر 2008، ص. 45. نشرت أولاً في Mona Hatoum: Undercurrents (منى حاطوم: تيارات خفية)، كتاب بينالي دونا فيرارا الثامن، 2008.
  10. كاترين دي زيغر، Mona Hatoum: Beyond the Violence Vortex into the Beauty Vortex (منى حاطوم: في تجاوز دوامة العنف إلى دوامة الجمال)؛ Mona Hatoum: Projecció (منى حاطوم: استقراء). برشلونة: مؤسسة خوان ميرو، 2011، ص. 120.
  11. كيارا برتولا، ص. 21.
  12. كيرستي بيل، Mona Hatoum: Unhomely (منى حاطوم: الغير مألوف). برلين: منشورات غاليري ماكس هتزلر وهولزفارت، 2009.
  13. أندريه بروتون، Manifestoes of Surrealism (بيانات السريالية)، ترجمة ريتشارد سيفر وهيلين ر. لين. آن أربور، 1971، ص. 37.
  14. سام بردويل، Dirty Dark Loud and Hysteric: The London and Paris Surrealist Exhibitions of the 1930s and the Exhibition Practices of the Art and Liberty Group in Cairo ("أسود متوسّخ، صارخ وهستيري: معارض السرياليين في لندن وباريس خلال الثلاثينيات وطرق العرض لدى جماعة الفن والحرية في القاهرة").
  15. سام بردويل، The Transmodern Artist; Sam Bardaouil and Till Fellrath, Told, Untold, Retold: 23 Stories of Journeys through Time and Space (الفنان عابر الحداثة، في: محكي، مخفي، مُعاد: 23 رواية لرحلات عبر الزمان والمكان). ميلانو: سكيرا، 2010، ص. 7.
  16. إدوار سعيد، Mona Hatoum: The Entire World as a Foreign Land (منى حاطوم: العالم بأجمعه كأرض غريبة).
  17. منى حاطوم، مقابلة أجرتها جانين أنتوني، Mona Hatoum (منى حاطوم)، ص. 22.
  18. نيكوس باباسترجيادس، Modernity as Exile: The Stranger in John Berger's Writing (الحداثة كمنفى: الغريب في كتابات جون بيرجر). مانشستر: منشورات جامعة مانشستر، 1993، ص. 11.
  19. المصدر نفسه، ص. 11.
  20. جون بيرجر، And Our Faces, My Heart, Brief as Photos (ووجوهنا، قلبي، مختصرات كما الصور). نيويورك: بلومسبري، 2005، ص. 57.
  21. ميرسيا إلياد، Myths, Dreams and Mysteries (أساطير وأحلام وأسرار)، ترجمة فيليب ميري. نيويورك: هاربر ورو، 1967، ص. 115.
  22. أندرو رنتون، Mona Hatoum (منى حاطوم). لندن: غاليري وايت كيوب، 2006، ص. 29–33.
  23. منى حاطوم، مقابلة أجرتها جانين أنتوني، Mona Hatoum (منى حاطوم)، ص. 23.
  24. والتر بنيامين، Understanding Brecht (فهم بريخت)، ترجمة آنا بوستوك. لندن: فرسو بوكس، 1977، ص. 121.

نُشر هذا المقال سابقاً في دليل معرض "منى حاطوم: اضطراب". صدرت الطبعة الأولى عام 2014 عن منشورات سِلفانا، شركة مساهمة محدودة. جميع الحقوق محفوظة © متحف: المتحف العربي للفن الحديث ومتاحف قطر، الدوحة، قطر. القيّمان على المعرض: سام بردويل وتيل فلراث.