عن صالات العرض
أطيافنا، أطيافكم: رؤى واعدة لسينما رائدة يقدم المعرض الأساسي أعمالاً سينمائية تركز على التجارب المعاصرة للحياة المجتمعية والتذكر وعبور الحدود والمنفى. يقدم المعرض تجربة شاملة وغامرة من خلال مجموعة مختارة من الأفلام التي شاركت مؤسسة الدوحة للأفلام في إنتاجها أو أنتجتها بمبادرة منها، بالإضافة إلى أعمال فيديو تركيبية من مقتنيات متحف: المتحف العربي للفن الحديث ومتحف مطاحن الفن المُزمع افتتاحه مستقبلاً.
أي وهم تجسده الصحراء؟ قفارٌ شاسعة من الرمال والصخور يدحر فيها انتفاء المعالم كل أثر مرئي للحضارة وكأن الزمن قد توقف. لكن وللمفارقة، حفظت تلك القفار القاحلة بعض أقدم الآثار البشرية من الاندثار وأضفت عليها معانٍ تاريخية بالغة الأهمية. فليس هناك ما هو أقل فتكاً من الصحراء ولا أطول عمراً مما يعيش فيها. وفي آداب العرب، المنزلة والموضوعة على حد سواء، الصحراء قطيعة مع ما قبلها، فالحج أو التيه ما هو إلا سبيل إلى محنة يعقبها كشف جلل. الصحراء أيضاً فضاء ميتافيزيقي اتخذه المخرجون السينمائيون المعاصرون عالمهم الخاص. وهكذا فإن الشخصيات التي تكشف عنها الأفلام المعروضة هنا، سواء كانت حقيقية (كما في 143 شارع الصحراء) أو خيالية (كما في أرض الأحلام)، تجهد للبقاء هناك بالرغم مما تكابده من المشاق. وقبل كل شيء، تحاول تلك الشخصيات رؤية أحلامها في مواجهة ما يتعرض له العالم من أشكال الاستلاب بشكل ما تبدو الصحراء عصيةً على الاستلاب بفضل مفارقتها له أنطولوجياً. تسمح هذه المساحات الخاوية ظاهرياً بمواجهة حقيقية مع الذات، وقد تصل أحياناً إلى حد الارتباك والجنون (كما في أبو ليلى)، وقد تنتهي كذلك بمواجهة مع اللامتناهي (كما في بانيل وأداما). الصحراء أيضاً هي حيث يتجلى تهديد المستقبل المناخي الكارثي دون مواربة.
أطلال
ليدا أبدول
هربت ليدا أبدول من أفغانستان مع عائلتها عقب الغزو السوفياتي عام 1979 وعاشت كلاجئة في الهند وألمانيا قبل أن تهاجر إلى الولايات المتحدة. غالباً ما تركز أعمالها على الأجساد والمناظر الطبيعية، وتستكشف تفاعلهما المعقد لدراسة مفاهيم الهوية والوطن والمنفى والمقاومة السياسية. في شريط مكرر مدته أربع دقائق بعنوان "قبة"، توثق أبدول لقاءها صدفةً بصبي صغير يتجول في مدينة دمرتها الحرب. يحدق الصبي متأملاً السماء الزرقاء من خلال مسجد انهار سقفه بينما يدور باستمرار في دوائر. تقتفي حركات الصبي الدائرية شكل القبة المهدمة وهو ينظر إلى السماء، إلى أن يأتي الخفقان المشؤوم للشفرات الدوارة لمروحية تحلق فوقه.
وائل شوقي
يتناول وائل شوقي في أعماله مفاهيم الهوية الوطنية والدينية والفنية من خلال الفيلم والأداء ورواية القصص. يمزج شوقي بين الحقيقة والخيال والخرافة والمعتقد. من أبرز أعماله إعادة تمثيل ملحمية لحروب مسلمي الشرق ومسيحيي أوروبا إبان العصور الوسطى في ثلاثية الدمى وعرائس الماريونيت بعنوان "كباريه الحروب الصليبية"، بينما يستخدم في ثلاثية "العرابة المدفونة" ممثلين أطفال لسرد الأساطير الشعرية. الفيلم مستوحى من زيارة شوقي لقرية العرابة المدفونة في صعيد مصر، والتي بُنيت إلى جوار موقع أثري لمملكة فرعونية قديمة. هناك، شهد شوقي أنشطة المجتمع المحلي بحثاً عن الكنوز تحت الأرض باستخدام السيمياء والقوى الروحية. في فيلمه، يستكشف الأطفال الذين يرتدون العمائم والشوارب المستعارة ويؤدون أدوار الكبار، المعبد ويتحدثون عن حكايات من رواية "عبّاد الشمس" (1983) للكاتب المصري محمد مستجاب. في هذه الحكاية، تمثل زهرة عبّاد (دوّار) الشمس مجازاً للتغيير في إشارة إلى ازدواجية الأسطوري والمعاصر.
باسم مجدي
تجري أحداث "أبي يبحث عن مدينة صادقة" في بيئة صحراوية قاحلة (صُور على فيلم سوبر 8، ثم تم تحويله إلى فيديو HD) وهو إعادة تمثيل لموقف ديوجين الكلبي حين حمل مصباحاً مضاءً في النهار مدعياً البحث عن "رجل صادق". صوّر مجدي والده أثناء سيره منفرداً في أرضٍ خالية سوى من خشب متحجر وأبنية غير مكتملة وأطلال أثرية، وهي السمات المميزة لعمران القاهرة الجديدة، المدينة الصاعدة على أطراف المدينة القديمة. ضُبط إيقاع الفيلم على صوت عاصفة رعدية هائجة. من ناحية أخرى، يبرز مجدي الإمكانات الجمالية للوسيط الفيلمي عبر معالجته بمجموعة من السوائل المنزلية التي تذيب الصور إلى طبقات من الألوان وتضفي عليها تفاصيل جديدة من البقع والخدوش، ما يأخذ الطبيعة البصرية للمادة الفيلمية بعيداً عن أصلها باتجاه الفانتازيا.
نيران
شعلة المقاومة
إلام ترمز هذه الشعلة الدائمة؟ أهي نار مدفأة يجتمع حولها الناس لإشعال شرارة الثورة (بندقية وحقيبة)؟ أم أنها ألسنة لهب تتصاعد من عالم ينزلق نحو دماره المحقق بسبب الحرب (الكهف) أو عقاب الطبيعة (مونيسيمي)؟ أم هي لهيب عالم في مخاض التحرر الذاتي يقذف شذرات توهجه في كل مكان ليبهر كل من يتأمله (أمي أنا أختنق)؟ ليس هناك من ثمّة مقاومة دون عنف، لذا يعلم المخرجون أن هذه النار الداخلية التي يعتزون بها هي تعهد وشرط لالتزامهم. بعض هذه الأفلام الحارقة لا تتردد في سرد قصص مبنية على وقائع حقيقية، تُدخل التاريخ إلى لعبة الخيال المحفوفة بالمخاطر. هنا يصبح مقتل شاب تونسي في سيدي بوزيد، الحدث الذي أطلق شرارة اندلاع الربيع العربي عام 2010، هو نفسه الأساس الذي يقوم عليه فيلم "حرقة" في سردية عن مجتمع على حافة الاختناق. النار في حالة حركة دائمة، تثير الرعب والإعجاب في آن واحد. وفي ذلك حقيقة لا يغفل عنها صانعو الأفلام، فالنار في جوهرها هي أيضاً سينمائية.
حدود
يوماً ما ستنتهي الحرب
ماذا يحدث عندما يتبدد الأفق؟ تُضطر النساء والرجال والأطفال إلى الاختباء، أو النزول تحت الأرض، أو خلق عوالم مصطنعة من الدمى والنماذج المُصغرة. تتمحور الأفلام التي تهجس بالحرب أو الصراعات الاجتماعية حول فكرة العوالم المصغرة، إذ يطوّع صانعوها عادةً مساحات مختزلة ومكثفة ومقيدة عبر خيارات إخراجية محددة. لنتأمل مثلاً المعالجة المسرحية لإعادة إنتاج السجن في ”اصطياد أشباح“ أو الحدود المغربية الأوروبية في”بوابة سبتة“. في هذه الأفلام، وكأننا في تجربة مختبرية، ترتسم المواقع بحدود مجردة (خطوط على الأرض) للتركيز على ما هو على المحك بين جانبي الحدود — أو بالأحرى على ما لم يعد على المحك في هذه التجمعات البشرية التي يسيطر عليها الخوف. فالسجون والحدود ومدن الصفيح هي أماكن محظورة لا يسمح فيها بالتصوير. إلا أن المخرج المبدع في تمرده على لعنة الصورة المفقودة يخلق بدلاً عنها عروضاً أصلية بنفس توثيقي قوي.
منفى
أين منزلي؟

الصورة: وضحى المسلم، بإذن من متاحف قطر ©2025
هل يمكن لمنفى صانعي الأفلام أن يكون مصدراً للتبادل والتهجين الثقافي؟ ما الذي نحتفظ به من وطننا الأم؟ ليس هناك من بد عن الوطن، وكما يذكرنا المخرج إيليا سليمان بحصافة شديدة: "لا وطن لي. ولكن بما أن المنفى هو الوجه الآخر للوطن، لا أعتبر نفسي منفياً. بل على العكس، وعلى مستوى معين غير سياسي، يمكنني القول إن أي مكان يمكن أن يجسد الوطن والمنفى في آن واحد." تولد جدلية المنفى، التي يعتنقها صانعو الأفلام المولودون في فلسطين أو سوريا أو كينيا، فضاء سينمائياً ثالثاً، لا هو بلد المولد ولا المهجر (القسري أو الاختياري)، بل هو فضاء بين؛ تختلط فيه وجهات نظر متعددة حميمية وعائلية واجتماعية ولغوية. إن استكشاف المنفى عبر السرد الوثائقي أو شبه الوثائقي هو وسيلة لمحاربة فقدان الذاكرة وأوهام الاندماج التي يروج لها الخطاب الرسمي. هنا يفسح صانعو الأفلام المجال لروايات غير رسمية قوامها الاجتزاء والتحول المستمر، سواء من خلال البورتريهات (فايا دايي) أو التصوير الذاتي (مطاردة الضوء المبهر). ليس الفردوس المفقود هو ما يسعون للعودة إليه، فالمنفى يحول دون الإيمان بأي يوتوبيا، بل المهجر كإزاحة إبداعية محتملة للمركز.
نجاة
حيث تتفتح القلوب
ما الذي يعرفه المشاهدون حقاً عن النساء اللواتي كرّمتهن السينما المستقلة؟ تتسم قصصهن بالبطولة والسعي إلى الاستقلال. لكنها تعكس أيضاً صورة لما لسْن عليه، أو بالأحرى لما يكافحن من أجل أن يصبحن عليه. في كل الأحوال، حتى وإن كان التحول ملتهباً أو كانت العقبات مؤلمة، فإن هؤلاء النساء من تركيا وليبيا والمغرب وإيران والجزائر وكمبوديا ومصر لا يستسلمن أبداً لقدرهن كالعبيد. بل على العكس، يُخضعن الفيلم للقوة المتفجرة لأزمتهن الوجودية. يواجهن الكاميرا أو يهربن منها، بتحاشي الصورة أو بالتعليق الصوتي عليها، ويظهرن دائماً في صراع مع مشاعرهن وحركاتهن؛ مع تعقيداتها وحتى تناقضاتها. يقدن السيارات ويسبحن ويركضن ويتحدثن ويتظاهرن، في مقترحات سينمائية تبدو أحياناً كأحلام اليقظة؛ مستعدات لتجاوز غلافهن الجسدي في حركات فريدة وغير تقليدية تخرج على جمود العالم الذكوري.
فانتازما
صور شبحية
أليست السينما هي الوسيلة الأدق لتصوير الأشباح؟ أشباح الليل التي ترتعش بغرابة مقلقة؟ أشباح ماضٍ مدفون أو عصيّ على المنال؟ أشباح مستقبل غامض أو لاوعي معذب؟ ولا يسعنا أن ننسى أشباح السينما نفسها، تلك الأشباح الموجودة فقط على فيلم 35 ملم أو في الصور المبكسلة والتي يظهرها الإسقاط الضوئي على شاشة قماشية أو على جدران المدينة. بالنسبة للعديد من المخرجين والفنانين، تبدأ مساءلة تاريخ بلد ما (وليكن سوريا أو لبنان) بمساءلة الصور التي أنتجها هذا البلد، والتي أسهمت في ترويجها دور السينما العاملة أو المغلقة. لقطات أرشيفية ثمينة مهددة أحياناً بالاختفاء تحتاج إلى ترويضها أو حتى إعادة تركيبها من خلال مونتاج جديد. صور عاميّة ومجزأة ومشطوبة وغير مكتملة تعطي صوتاً لمن فارقوا الحياة بالجسد، لكن الكاميرا خلّدتهم إلى الأبد — موتى وأحياء في آن واحد. هي سينما عن السينما، أو بالأحرى سينما متخطية للسينما، ترينا كيف نجتاز العتبة الفاصلة بين تمثيل العالم وأشباحه.
رقص
حسن خان
تواجه أعمال حسن خان الظروف الحياتية بتجارب حميمة وسرية تولد شكلاً لمجتمع خيالي. يطرح هذا الشكل أيضاً أسئلة جوهرية؛ يغري ويصد، ويراوغ التوقعات ويثير الغموض ويساعد على إعادة صياغة تجاربنا مع هياكل السلطة المتغيرة. يستخدم خان مجموعة واسعة من الوسائط، بما في ذلك الفيديو والتصوير الفوتوغرافي والأداء والتركيب. لا يرى الفنان كل وسيط من هذه الوسائط كمجال يجب إتقانه، بل كمجال للإمكانية والإمكانات والتعلم. يبدأ "جوهرة" بأضواء وامضة تتحول تدريجياً إلى شكل سمكة مصحوبة بموسيقى أصلية من تأليف خان، مستوحاة ومطورة من موسيقا "الشعبي"، وهو تصنيف موسيقي حضري تعود جذوره إلى الأحياء الشعبية المصرية. تصور هذه الحلقة الموسيقية الفاتنة رجلين يرقصان بشكل عفوي، وهو إعادة تصوير لمشهد صادفه الفنان في أحد شوارع القاهرة في إحدى أمسيات صيف عام 2006، حيث كان خان في سيارة أجرى عندما رأى بطرف عينيه رجلين يرقصان في شارع مزدحم. شكل هذا المشهد، وإن كان لمحة خاطفة، صورة ذهنية بالغة التأثير.
كون
الحد الأقصى

الصورة: وضحى المسلم، بإذن من متاحف قطر ©2025
ماذا لو كان استكشاف العالم يتضمن أيضاً المغامرة إلى أقصى حدوده، إلى حدود الكون؟ شهدنا في الآونة الأخيرة انتشاراً مدهشاً لأفلام الخيال العلمي ليس فقط من فلسطين ولبنان، بل من تايلاند أيضاً. حتى وقت قريب جداً، كان الكون هو الفضاء الوحيد الذي لم يكن مستعمَراً، الفضاء الوحيد الذي يمكن تخيل أرض طوباوية عليه: ليس رمزاً لما بعد الاستعمار بل لمناهضة الاستعمار. هذه الأفلام المستندة إلى أحداث حقيقية (جمعية الصواريخ اللبنانية) أو إلى رؤى خيالية بحتة منتجة بواسطة الكمبيوتر (في المستقبل أكلوا من أرقى الخزف)، لا تتردد في السفر بعيداً عبر الكون لمساءلة المجتمعات المعاصرة والتحديات الإنسانية وأخلاقيات العلم، بالإضافة إلى القضايا السياسية الملحة مثل الفصل العنصري والاحتلال. يخلخل هؤلاء المخرجين تقاليد هذا النوع من الأفلام إلى الأبد، ليس فقط لجعل الجمهور يحلم، بل لدفعه إلى التفكير في إنسانيته.
المستقبلية
صوفيا الماريا

الصورة: وضحى المسلم، بإذن من متاحف قطر ©2025
بين ثقافة البوب والأنيمي والشعر العربي والخيال العلمي وتجربتها الشخصية في مجال مكافحة التلوث البيئي وتغير المناخ، تبدو مصادر إلهام صوفيا الماريا متباينة إلى حد كبير. تنسج الماريا حكايات آسرة لمعالجة أفكارها ومشاعرها تجاه المستقبل، خاصةً مع ما يخيّم على العالم من إحساس بالهلاك الوشيك، وذلك بالعمل على الأفلام والنصوص السردية بشكل أساسي. تركز أعمالها الأخيرة بشكل متزايد على عزلة الأفراد عبر التكنولوجيا، والنزعة الاستهلاكية كمعتقد ديني بالوكالة، ودور القصدية والصدفة في حركتنا الحتمية نحو مستقبل غامض. صاغت الماريا مع صديقتها الموسيقية فاطمة القديري مفهوم "المستقبلية الخليجية". في كتابها "كيس حزين" Sad Sack، وهو مجموعة من الكتابات التي نُشرت مؤخراً، توضح الماريا كيف يعيش الخليج بالفعل، في بعض النواحي، داخل مستقبل تخيله الغرب. وتبحث في الطرق المختلفة التي يُساء بها فهم هذا المستقبل أو تُساء مشاركته بشكل عادل، لا سيما فيما يتعلق بالنسوية.