رسمُ التأريخ: كباريه الحروب الصليبية لوائل شوقي وسقوط التاريخ الغائي

بقلم كارولين كريستوف-باكارجييف

المشاركة مع صديق

تاريخ النشر: 13 ديسمبر 2017، [تمت المراجعة في 10 نوفمبر 2025]

هل لدينا كأفراد إرادة حرّة وقرار ذاتيٌّ؟ هل نحن وراء أفعالنا وهل يمكننا تحديد خياراتنا، أم أنّ الأفعال البشريّة تحدّدها أسباب أو ظروف خارجية أو التدخّل الإلهي أو القدر؟

سوف أناقش هذه المسألة من خلال النظر إلى ثلاثية أفلام الفيديو "كباريه الحروب الصليبية" التي أنتجها وائل شوقي المنتجة خلال الأعوام 2010 و2012 و2015. باستخدام الدمى المتحركة وسينوغرافيا متقنة وخطاب عربي فصيح، بالإضافة إلى الموسيقى الإلكترونية والأغاني التقليدية، تصوّر هذه الأفلام محنة وآلاماً كبيرة وأفعالاً عنيفة، بما في ذلك الطعن والذبح وأكل لحوم البشر ومشاهد لكلاب يلتهمون جثة. هنالك تناقض صارخ بين العنف من جهة، والواقعية الساحرة وجمال السنوغرافيا وروعة الدمى وملابسها والتصوير المثير والموسيقى الفاتنة من جهة أخرى. في حين تعالج هذه الأفلام وقائع من القرون الوسطى (الفترة ما بين الحملة الصليبية الأولى في القرن الحادي عشر وعام 1204، عندما تم اجتياح ونهب القسطنطينة، المدينة المسيحية في الأصل، على يد الصليبيين خلال حملتهم الرابعة)، تدفعنا هذه الأفلام للتفكير بزماننا وارتفاع أعداد الضحايا (حوالي 000‚200 في سوريا منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011 حتى الحرب الأهلية اليوم) وبالخسارات البشرية في حروب الخليج بين الولايات المتحدة والعراق في التسعينيات والعقد الأول من الألفية، وحرب الخليج الأولى والحروب الأهلية اللبنانية في عقدي السبعينيات والثمانينيات، والحروب العربية – الإسرائيلية منذ عام 1948، وتقسيم الأراضي العربية التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية في العشرينيات على يد الاستعمار، والإمبراطورية العثمانية وحروبها الداخلية، بالإضافة إلى أحداث أقدم وأقدم.

أكرر: هل لدينا كأفراد قرار فرديّ، أم أن الأفعال البشرية تحددها أسباب أو شروط خارجية أو القدر؟

يبدو أن أعمال شوقي تفترض ضمنا أن القرارات الكبرى التي قد نحققها ليست سوى قابليتنا للخضوع إلى سلطة مجهولة أساساً وموجودة داخلنا، من خلال الالتزام بالمهمة التي بين يدينا، مهما كانت تلك المهمة، وبدقّة أكثر، أياً كان الأمر الذي تركز عليه.

بوصفه رسّاماً في الأساس، لا يستخدم شوقي التظليل، إنما يفرّد عمله للخطوط. في حديثه حول رسومه. قال لي: "إنه حقيقةً ليس شيئاً أعرفه بشكل مسبق. شيء قد يتحول إلى حيوان يرتبط بمدينة ما، على سبيل المثال. ليس لدي أية فكرة في البدء عما هو. ما أريده من العمل هو أن يكون دقيقاً بشكل كاف في تفاصيله لضمان عدم انتقاد جزئيّاته، بحيث يبدو كما لو كان موجوداً واقعيّاً في مكان ما. المنظر الطبيعي، الشكل موجود، حيوان له أربعة أرجل. هذه هي تحديداً الكيفية التي صنعت فيها كافة الدمى بدقة. الدمى مصنوعة عن طريق نفخ وتشكيل الزجاج، لكن المسألة ليست مسألة نفخ، إنها حول كيف يمكن للشيء أن يكون محدّداً لدرجة تدفع للاعتقاد بأنه شيءٌ موجودٌ في الواقع، له غرض ووظيفه."1

يتّخذ شوقي دور المعلم والمربي سواء في عمله أو في حياته (عام 2010، حوّل مشغله إلى "ماس الإسكندرية"، وهي مدرسة بديلة للفن المعاصر). كان قد أعجب بأسلوب جوزيف بويز الثقافي، الشاماني والمضاد للاستهلاك، وابتكاره مفهوم النحت الاجتماعي منذ 1971 (تشكيل مجتمع كشكل من أشكال النحت من خلال الحوار والنقاش)، بينما كانت لديه رؤية خيميائية للمواد بصفتها ناقلة لطاقة ذات عملية تحول مستمرة، وبالتالي لحيوية والحياة. "2

أفلام "كباريه الحروب الصليبية" هي أدوات تربوية، جاذبات بصرية تهدف إلى حث المتلقي على دراسة القصص المروية. رسالته هي الارتقاء بمستوى الخطاب الشعبي من خلال التربية، والإلهام على مواصلة السعادة والعدالة والحياة التأملية. وبالرغم من عدم الاعتقاد بصدقية أي من الكتابات التاريخية، استخدم بدقة الاقتباسات الصحيحة من النصوص التاريخية والمصادر الأصلية: "أنا لا أؤمن بالتاريخ؛ ما زلت أحاول أن أستخدم مصادر التاريخ المكتوب لتحليل هذا التاريخ. أنا انتقد التاريخ من خلال الدقة واستخدام الجُمل والأقوال المقتبسة كما هي."3

إن معظم الفيديوهات والأفلام التي ينتجها شوقي هي أعمال تركيبية في الوقت ذاته، لكيلا يكون الزائرون مجرد مشاهدين منفصلين عن الأعمال، بل شخصيات داخل التصميم. يتعزز هذا الشعور بالمشاهدة الجسديّة من خلال الأفلام المسجلة رقمياً، والتي توفر تفاصيل واضحة كافية لإضفاء تجربة لمسية ذاتية لدى المشاهدين من خلال استراجية التفاعل الحسيّ المرآتيّ. على سبيل المثال، يُحفز تباين ملمس وألوان المواد المختلفة، الصلبة واللامعة مقابل الناعمة والمخملية، بالإضافة إلى اللقطات المقرّبة والخلفيات الضبابية، تجربة تآزر (سانستيتك) حسيّ.

كان تطور الأفلام المبنية على التركيب، من قبل فنانين مثل شانتال أكرمان وجان لوك غودار، في الثمانينيات، بمثابة ردة فعل جزئياً على صعود وسائل الإعلام والقنوات الفضائية على التلفزيون. تتميّز أفلام الأعمال التركيبية هذه غالباً بأسلوب وثائقي وبلهجة ومحتوى استنكاريين، كما لو أن دورها هو استكمال التقارير الإخبارية المتحيّزة في وسائل الإعلام الرسمية، من خلال تقديم معلومات بديلة أو عكسية، وذلك باسم العدالة العالمية ومن أجل تاريخ أصدق. مع أن أعمال شوقي كانت جزئيّاً ضمن هذا النوع الفنيّ (مثل "الكهف"، 2005، و"بنت جبيل"، 2007) إلا أنها انتقلت إلى الواقعية السحرية مع تركيز شديد على الأعمال التركيبية متعددة الوسائط. شوقي هو من الجيل الجديد الذي يمارس إنتاج الأفلام وتحريك الصور على الإنترنت، مثل اليوتوب، وبالتالي انتقلت اهتماماته من الأفلام الوثائقية إلى الأفلام التاريخية والأفلام البيتية الشخصية. ورغم أن عمل "كباريه الحروب الصليبية" يحافظ على صلة وثيقة بالمصادر التاريخية، من ناحية التواريخ والأحداث والأماكن، فهو بعيد كل البعد عن أفلام الأعمال التركيبية الوثائقية المفاهيمية التي سادت في التسعينات والعقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين.

يرجع ذلك إلى واقع أنه في عصر الوسائط الرقمية المشبع بالمعلومات، يبدو من الصعب إنتاج المعرفة من خلال ممارسة التوثيق فقط: هنالك الكثير من الوقائع، لذا تصبح "الحقيقة" مبنية على الوقائع التي تم اختيارها وتوثيقها، مما يعني أنه يمكن تأكيد أية حقيقة من خلال عمليات الاختيار والتصويب. من هنا، يعمل شوقي على مستوى خيالي صريح: من خلال التصميم واستخدام الدمى كشخصيات رمزيّة بشريّة حيوانيّة. لكنه لا يفقد أبداً سيرورة القصة، بفضل الدقّة التي ينقل فيها الوقائع التاريخية بالاستناد على المصادر الأصليّة للأحداث، بما فيها كتابات أسامة بن منقذ وابن القلانسي.

في مقالة نشرت حديثاً، صنفت جيسيكا مورغان أعمال شوقي ضمن إرث الأعمال الفنية التي تعيد تمثيل أحداث ماضية، وتتحدث عن "إعادة تتبع خطواتنا الماضية على أمل اكتشاف طريق آخر للمضي قُدماً" كما تضيف أنه "بالرغم من سرعة تدفق المعلومات والصور، أو بسببها، يتجه انتباهنا نحو الماضي في حلقة متواصلة من التكرار."4

وتلفت الانتباه إلى أن السبب وراء مساعينا لإعادة الأداء يرتبط بالشعور بالتشكيك في "مصداقية وصحة الوثائق التاريخية. ما انبثق عن ذلك هو نوع كامل من صناعة الفن يهتم بتشريح دور التصوير في وسائل الإعلام واستخدام التصوير في كافة جوانب مجتمعنا، مع إيلاء اهتمام خاص لدوره في الحروب والسياسات" مع قولها هذا، تشير أنه من الصعب تصنيف أعمال شوقي ضمن هذا التوجّه (الذي أفترض أنه يشمل فنانين مثل أكرم زعتري ووليد رعد)، وذلك رغم أن عمله يستند إلى كتاب أمين معلوف "الحروب الصليبية كما رآها العرب" (1983) وروايات مؤرخين عرب كتبت في مراحل أقرب إلى الفترة المعنية.

يتيح استخدام الدمى لشوقي التحدث بعبارات أكثر شمولاً، وعلى مستوى الرواية، حول الشخصيات والأنواع، والجشع والوحشية. تستند مورغان إلى نظرية بريخت حول الاغتراب المسرحي (Verfremdung)، لتفسير خيارات شوقي وتقنياته: "تسمح عملية التغريب عن المادة المصدر والموضوع جوهر العمل للمشاهد بمقاربة الموضوع الجدلي من منظور غير معهود."5

يساعدنا ذلك على رؤية الحروب الصليبية، ليس من وجهة نظر عربية فحسب، لكن أيضاً من منظور التشكيك في التاريخ، أو التشكيك في الروايات التاريخية عموماً. أود أن أضيف، بل يسمح لنا أن ننظر َ في الروايات التاريخية عموماً إلى الأحداث كصورة مجازية لتكرار التاريخ، ولكي نرى بالتالي الصراع الذي نشهده اليوم في الشرق الأوسط كتكرار لنفس أشكال التنافس تلك على الموارد وأشكال أخرى للسلطة.

في العديد من أعمال شوقي، يظهر الأطفال بدلاً من الدمى. في الفيديو رباعي القنوات "مربع الأسفلت" (2003)، على سبيل المثال، بنى أطفال من البدو مدرج طائرات في الصحراء خلال يوم واحد. يتكلمون الإنجليزية بلكنة ثقيلة، وهي لغة لا يفهمونها. وفي "تيليماتش السادات" (2007، "سلسلة تيليماتش"، 2007-2009)، عبارة عن إعادة تمثيل اغتيال أنور السادات سنة 1981 خلال عرض أكتوبر العسكري، هناك أداء من قبل أطفال بدو ليس لديهم أية معرفة أو فهم لما يفعلونه. تلاحظ مورغان العلاقة بين تضمين الأطفال واستخدام الدمى في "كباريه الحروب الصليبية" (2010-2015) حيث إن الأطفال، مثل الدمى، "لا يظهرون إدراكاً واضحاً أو وعياً ذاتياً في أفعالهم"6، وتعتبر أن إعادة توجيه النهج الوثائقي هذه توحي بالطبيعة الهزلية والعبثية لتكرار التاريخ، كما لو أن العالم لا يتعلم أبداً من الأفعال الماضية.

تشير مورغان بشكل صائب إلى أن أفلام "كباريه الحروب الصليبية" تتميّز باستخدام تقنيات سينمائية أكثر منها مسرحية: "تختلف أفلامه عن مسرح الدمى التقليدي حيث إن المشاهد مؤداة بطريقة تستخدم تصميمات ديكور متقنة وإضاءة وتأثيرات خاصة من تقاليد سينمائية بدلاً من تقاليد "الماريونيت."7

وفي حين أوافق هذا الرأي، أفترض أيضاً أن العكس صحيح: باستخدام الدمى المتحركة والتجهيزات، يدفع شوقي الإنتاج السينمائي إلى أوائل عهده، عندما كان أقرب إلى المسرح، باستخدام الكاميرا بشكل مواجه أماميّ ومحدود، والمسرح القوسيّ، والابتعاد عن التنفيذ والمعالجة بالتكنولوجيا بالوسائط الرقمية السائدة اليوم. على هذا النحو، إنه يضفي تناقضاً ظاهراً إلى التلاعب الديناميكيّ بين استخدام الدمى واستخدام الفيلم. فبينما تقلد الأفلام الحياة الواقعية من خلال محاكاة الحركة عبر الزمن، باستخدام تتابع الأطر التي تتغير بسرعة، تستند عروض الدمى إلى عالم رمزيّ من الأشياء الجامدة في طبيعتها والتي لا تحيا إلا على يد محرك الدمى.

أُنتج فيلم "ملف عرض الرعب" (2010) وهو الأول ضمن ثلاثية "كباريه الحروب الصليبية"، خلال إقامة لدى مؤسسة ميكيلانجلو بيستوليتو في بييلا، بيدمونت، وقد استطاع شوقي أن يقترض من خلال المؤسسة دمى مجموعة دانييلي بوبي الخشبية في تورينو، المصنوعة في القرن الثامن عشر. يستمر الفيلم مدة 32 دقيقة، ويحكي قصة الحرب الصليبية الأولى، بدءاً من عام 1095 حتى عام 1099، عندما سقطت القدس. وفي حين أن وجوه الدمى جامدة وصلبة، فإنها تؤدي أفعالاً شديدة العنف والحركيّة. يذكر ذلك بالعنف الشديد في عرض الدمى التقليدي في التراث الغربي "بونش وجودي"، لكن الشبه الأكبر هو لعرض "أوبيرا دي بوبي"، وهو تقليد في رواية القصص الرومانسية من خلال الدمى مثل "أورلاندو فوريوزو" (نوبة جنون أورلاندو) للكاتب لودوفيكو آريوستو. وضعت هذه العروض في زمن كانت تسود فيه كثرة الاقتباسات من الثقافة العربية، وهي مستلهمة من جلسات الحكواتي الذي تتألف حكاياته المتداخلة من مئات الحلقات، مثل قصص شهرزاد، الملكة العربية الأسطورية التي روت حكايات "ألف ليلة وليلة".

يروي فيلم "الطريق إلى القاهرة"، (2012)، الفيلم الثاني والأطول ضمن الثلاثية، قصة الشرق الأوسط بين نهاية الحرب الصليبية الأولى عام 1099 والحملة الصليبية الثانية (1146-1149). هنا، يستخدم شوقي دمى من الخزف صُنعت خصيصاً للفيلم، تفتح وتغلق أجفانها وأفواهها مصدرةً أصواتاً حادة. الصوت هامّ في هذا الفيلم الثاني، حيث تجمع بين أصوات الممثلين والأغاني وقرع الطبول والآلات الموسيقية مع كلمات الأغاني التي تؤديها مجموعة من صيادي اللؤلؤ البحرانيين، الذين وظفهم شوقي خصيصاً لهذا العمل الفني، بالإضافة إلى الأطفال ورواة القصص الدينية الشيعية.

في "أسرار كربلاء"، (2015)، وهو الفيلم الثالث من السلسلة، صُنعت الدمى من الزجاج، وهي مادة أكثر قابلية للكسر من الخزف. مستوحى من إنسانية وهشاشة المسيح في رواية خوسيه ساراماغو "الإنجيل بحسب يسوع المسيح" (1991) والتي تعرّضت للمنع، بدأ شوقي التفكير باستخدام الزجاج للتعبير عن"8 هشاشة الجسد حامل الروح.

يؤدي ارتجاج خارجي عال جداً إلى تحطّم الزجاج عندما تنفتح أعين الدمى وتنغلق، محدثةً أصداء تدوم أكثر من تلك المصنوعة بالخزف. ينتج ذلك شعوراً بالتسامي، فمثل الأجراس، ذلك يُثير جوّاً من الأصداء يجعل الفضاء المحيط محسوساً. إننا "نسمع" هذا الفضاء.

وعودةً إلى السؤال الأول الذي تطرحه هذه المقالة: فإن مسألة ما إذا كنا نملك إرادة حرة أم نعيش في عالم حتمي، ليست، كما قد تبدو للوهلة الأولى كمسألة فكر غربي فرداني معاصر مقابل فكر شرقي أكثر اجتماعية، حيث إنها مسألة شكسبيريّة كذلك. في الفصل الخامس، المشهد الخامس، من "ماكبث"، يأتي رسول ليخبر ماكبث أنه رأى الغابة تتحرك نحو القصر، لكنه لا يستطيع أن يقول في البداية سوى: "أتيت لأذكر مشهداً رأيته بعيني، غير أني لا أدري كيف أبدأ."

تتعلق ملاحظته بنقل الأحداث، وكيف يمكن أن يحدث هذا النقل إذا كان حامل القصة غير قادر على تفسير أسباب الحدث، وفقاً لسلسلة من الأفعال التي تمت بإرادة حرة. وبالتالي أنه سؤال حول فعل التأريخ، إمكانياته وغايته.

إن كتابة التاريخ العربي "حوليّة" في بنيتها، مبنية على الحوليات، أي التواريخ والتسلسل بالسنوات. معظم المؤرخين العرب كانوا مؤرخين في البلاط، يكتبون التاريخ تبعاً لتفضيلات الحكام. لكن ابن خلدون قد اقترح في مقدمته عام 1377 قراءةً اجتماعية للتاريخ وحاول فهم العلاقة بين الطبيعة والزراعة والبشر. تحدّث عن الأقاليم المعتدلة، التي ليست في أقصى الشمال ولا أقصى الجنوب، والتي تولّد الأشياء المعتدلة: "العلوم والفنون والملابس والطعام والفواكه، بل وكل شيء آخر يتم إنتاجه في المناطق المتوسطة الثلاث، تتميز على أساس طابعها المعتدل المتناسب بشكل جيد."9

وبالفعل، لا تقع مكة في المناطق البدوية الحارة والجافة، بل في واحة الحجاز، بالقرب من التلال المطلة على البحر الأحمر. خلال القرنين السادس والسابع، هاجر العديد من البدو الرحل إلى تلك في مرحلة من المنطقة. شهد الانتقال من مكة إلى المدينة تحولاً في المجتمع. غيّرت الهجرة المجتمع؛ فالدين وبناء المدن وحّداه وجعلاه مستقراً. يعتبرُ ابن خلدون أن: "انحطاط المجتمع هو نتيجة لعدم الاستقرار."10

يبدو أن هذا المنظور الاجتماعي في تطور التاريخ تبعاً لبعض الأنماط المتكررة في الهجرة والتنمية في مجتمعات مستقرة مع بناء مدن جديدة، التي يليها الانحطاط الحتمي وانحلال الحضارة، مقبولاً في نظرة شوقي إلى العالم، حيث إنه يستشهد مراراً بهذه الأطروحة. من المثير للاهتمام ملاحظة أن رؤية الهجرة كجزء من تحول المجتمعات يرجع أيضاً إلى الأمثولات التأسيسيّة في الإسلام، مثل الانتقال من مكة إلى المدينة كجزء من الهجرة الضرورية من أجل تطوير ما يستحق التطوير. يروي شوقي غالباً قصة هجرته الخاصة من الإسكندرية إلى مكة، مع عائلته عندما كان طفلاً، ومشاهدته لتعايش الحداثة والمجتمع. وقد أشار مرةً أن الثقافة البدوية في منطقة الخليج تبدو أكثر قبولاً للتكيف مع طبيعة رأسمال المال العالمي المرتحل، وبنية المجتمع في عصر الإنترنت.

في فصل "مفهوم التاريخ"، من كتاب "بين الماضي والمستقبل" (1954)، تذكّرنُا حنة آرندت أنه في اليونان القديمة كان يُعتقد أن الطبيعة خالدة، نظراً لطابعها الدوري في استمرارية التكرار والولادة من جديد. "11

كان هذا الخلود الدوري يتعارض في نظر الإغريق مع خضوع البشر للموت، وهم، بسعي منهم للحصول على نوع من الخلود، واصلوا ابتكار التاريخ ومن خلال الرواية التاريخية لأفعال وأقوال البشر السابقين، تستطيع إلهة الذاكرة، نيموسين، أن تخلق نوعاً من الخلود للبشر.

صُنفت كتابة الشعر والتاريخ ضمن الفئة نفسها من قبل أرسطوطاليس، لأنهما كانا مكرسان لجعل الأشياء تدوم من خلال الذاكرة. يحدث ذلك عن طريق تحول حدث ما إلى تاريخ عبر إعادة روايته، وبالتالي من خلال شكل من أشكال تقليد الفعل. وضع ثوسيديديس (460-400 قبل الميلاد) في كتابه "تاريخ الحرب البلوبونيزية" قواعد كتابة التاريخ بالاستناد على ضرورة التوثيق وإيجاد الأدلة. وقد روى قصة الحرب بصفتها حركة تاريخ كبرى.

حدث تحول ثقافي كبير عندما أدخلت الديانات التوحيدية، بما فيها الإسلام، مفهوم أن ما يبقى هو فقط الروح والنفس البشرية، على نقيض العالم الطبيعي البائد والذي يشمل جسد الإنسان. اليوم، وحتى منذ عصر الرومانسية واكتشاف الوقود الأحفوري الكربوني، يُعتبر مفهوم كون الطبيعة بائدة وخاضعة للزوال أكثر حقيقةً بشكل عام من كونها خالدة مثلما كان يعتقد القدماء.

نشأ علم التاريخ الحديث في أواخر القرن الثامن عشر، مع كانط وهيغل، وتبعهما ماركس. كان المهمّ هو حس الغائية، وهي حركة أو تطور للنوع البشري عن طريق التاريخ. كان يُعتقد أنه من خلال كتابة التاريخ، يمكننا أن نرى هذه الحركة، ليس كسلسلة أحداث منفردة وخارجة عن العادة؛ بل يمكننا أن ننظر إلى ما هو أبعد من الأفعال المنفردة ذات الأهداف قصيرة الأمد، لكي نرى أهدافاً عُليا يغفل عنها الأفراد، كنوع من روح بشرية كونية شاملة. يصبح التاريخ تعريفاً لهذه السيرورة وفهماً لها. بالنسبة لماركس، كان ذلك حركة وسيرورة نحو مجتمع بدون طبقات، نوع من الفردوس على الأرض.

علاوة على ذلك، طُرحَ في القرن التاسع عشر التعارض بين حقل علوم الطبيعة، بصفتها موضوعية بحتة، وحقل علوم التاريخ، ونحن نعرف اليوم أن ذلك ينطوي على مغالطة، حيث إن كليهما يصلان إلى نتائج تستند إلى الأسئلة المطروحة، كما أن هذه العلوم تعتمد جميعها على نظرة المراقب. كان على المؤرخ أن يكون موضوعياًّ يبني دراسته على الوثائق والحقائق، بدون إصدار أحكام أو إطلاق اللوم. لكن اختيار الوثائق كان دائما عبارة عن تدخّل، لذا فإن وجهة النظر الغائية كانت هشة في أساسها.

قالت آرندت، التي ألفت كتاباتها في الخمسينيات، بكثير من الحدس، أن المشكلة في عصر الحداثة التكنولوجي هي أن البشر لا يواجهون إّلا أنفسهم في عالم كهذا. حتى فيما يدعى بالعالم الطبيعي، كل شيء قابل لأن يكون من صنع الإنسان، إذن فإن العالم منسلخ عنا لكونه مخنوق من قبلنا. تعتبر آرندت، في مقالها من عام 1954، أنه في عصر كهذا ليس هناك تاريخ، ولا سيرورة يمكن تعريفها. كتبت ذلك قبل بضعة عقود من اختراع الإنترنت، ويبدو ذلك اليوم أكثر واقعيّة من أي وقت مضى.

كيف يرتبط ذلك بعصرنا الحالي؟ هل نحن دمى أم أننا نمتلك القرار؟ يروي هاينريش فون كلايست، في مقالته "حول مسرح الدمى المتحركة" (1810)، قصة لقائه مع راقص شهير كان يتوقف كثيرة أمام مسرح دمى للترفيه عن العوام في ساحة أحيانا السوق، ونقاشه معه حول ميزات رقص الدمى بالمقارنة مع الراقصين الأحياء: "لكل دمية نقطة محورية عندما تتحرك، مركز ثقل، وعندما يتم تحريك المركز، تتبعه الأطراف بدون أي تدخل إضافي... حركات المركز هذه بسيطة للغاية. في كل مرة يتم توجيه مركز الثقل في خط مستقيم، ترسم الأطراف منحنيات تكمّل وتوسع الحركة البسيطة. في كثير من الأحيان عندما تُهزّ الدمى قليلاً بشكل اعتباطي، تتحول إلى نوع من الحركة الإيقاعية التي تشبه الرقص بحد ذاتها... لن تنزلق الدمية أبداً نحو التكلف."12

من هنا فإن مركز الثقل هو الجزء الوحيد في جسم الدمية الذي يوجهه محرك الدمى، وهو يتحرك بشكل لولبي، بينما تؤدي الأطراف حركة رشيقة كنتيجة لذلك، وهذا ما لا يستطيع أحد تحقيقه عبر التحكم المتعمد بها.

ربما كان فون كلايست يفضل الايماءات التلقائية وغير المتعمدة. فهي تحقق انسيابية، بينما الفعل الواعي ينتج الزيف. ليست الدمى مثقلة بالجاذبيةُ، بل إنّها تتفاعلعكسيّاً مع الفضاء الذي يعلوها، حيث يدفع مُحرّك الدمى أيديها. هي كائنات أكثر تحرراً، وأكثر ملائكية، لا تخضع إلى قوانين الأرض.

يبدو أن كلايست يريد القول إن الإرادة الحرة تعيق التمتع بالحركة والحياة العفوية. فهل من الأجدى إذاً عدم امتلاك إرادة حرة؟ يتعاطى كلايست مع هذا الموضوع كمسألة ما ورائية تتعلق بالحقيقة والجمال، فالنعيم الأقصى يكون إما في الوعي اللامتناهي (الإلهي) أو في الغياب التام للوعي (الدمية).

ن رواية القصّة لدى شوقي ليست واحدة من الحقائق الماورائية، ولا من الحقائق الغائية المعقلنة، بل هي من الحقائق الوقائعية. في التاريخ، حتى في أيامنا هذه، تبدو الوقائع وكأنّها تحدث بشكل آليّ، من خلال الفعل وردّ الفعل. لذا فإن الدمى أكثر مصداقية، كما يقترح. دماه جميلة، وبغياب الوعي، إنها تُبيّن التاريخ على مستوى ميكانيكي. ليس هنالك تفسير للتاريخ، بل حوارات وصفية قصيرة فقط.

يجعل شوقي الدمى تمثّل التاريخ من خلال راوٍ عليم، يروي بمعزل عنها، يتحلى بنظرة مُراقبة ولكن منفصلة عن التاريخ. لم تُعالج الأحداث بشكل صريح، وليست منتظمة في بنية تفسيرية لتسليط الضوء على بعض الأحداث دون غيرها. فالأحداث إما متضمّنة أو غير متضمة، وعندما يتم إدخالها، تكون على نفس المستوى مثل غيرها، المشهد تلو المشهد.

لا يبتكر شوقي تاريخاً سِيَريّاً، أو موضوعاً بطوليّاً أو رواية تستند على دور فرد واحد يتتبع فيها هذا الفرد عبر مختلف الأحداث والمواقع، كما في تاريخ يوليوس قيصر. كما لا يُركز على البنى الاقتصادية الكامنة وراء الاستغلال ووسائل الإنتاج وتوزيعها، كما في التاريخ الاجتماعي. طريقته بالسرد مبنية على الحدث، مثل التاريخ التقليدي، لكنها تظهر أيضاً كواليس تلك الأحداث، الدسائس في القصور، والوقائع البسيطة ومحادثات الحياة اليومية. ليس هناك منظورٌ ماركسيٌ أو غائيٌّ، ولا تاريخٌ اجتماعيٌّ أو أنواع التاريخ الأخرى التي تكشف عن الأسباب العميقة والروابط الخفية.

يستخدم شوفي الدمى لأن تاريخه بلا أبطال، وبلا دوافع أو أسباب أو نوايا خارجية. لا يتّخذ رؤية علمية في التاريخ، على عكس ماركس الذي أوجد له قوانين حتمية. كل ما يحدث هو وقائع وأحداث، حيث يلعب كلّ فرد جزءاً صغيراً. مثل الدمى في نظام يعمل بدون محرك دمى. هذا عكس نظرية المؤامرة: الخيوط ليست كلها بيد أي كان. إنه تاريخ آلي، تاريخ تلقائيّ، حيث التسلسل الزمني والجغرافيا يُحددان تتالي الأحداث من مدينة إلى أخرى، أو مركز، على مر الزمن. إنه تاريخ ذو بنية أفقية، وحتى هذه البنية ليست خطاً مستقيماً. بل هي خط متعرج ومنحن، مرسوم بلا ظلال.

هذا الاهتمام بالتاريخ والآليات، موجود نفسه في صميم لوحات جريرارد ريختر، من يعجب به شوقي بشدّة لدقّته. "13

في عصر الاستنساخ الميكانيكي للصور، لا يرسم ريختر لوحات، ولا يحاول أن يتنافس في فنه مع الميكانيكا أوالتكنولوجيا أو الوسائط، من أجل الأصالة أو التعبير الذاتي، بل إنّ يُسّلم  بالصورة المستنسخة تقنياً. بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن هاجر من ألمانيا الشرقية إلى الغربية، وأصبح فنان استنساخ بشكل أساسي، حيث تكمن شاعرية وقوة أعماله في قدرته، ليس على التعبير الذاتي، بل على التحول إلى مترجم إنساني لصورة مستنسخة ميكانيكيا.

يتّسم تركيز شوقي على الخطوط بكل من الدقة والخيال الطفوليّ: إن الرسوم مشغولة من خطوط متعمدة وتلقائية في آن، وهي متحركة عبر الزمن. تُعطي شعوراً بالمؤقت والفوري والتحضيري. إنها رسوم تخطيطية تنفّذ من دون تخطيط مسبق ويتحرك خطها المتموج والمائج وغير المنتظم حول الصفحة أو الورقة كما لو أنه يرسم خطاً على خارطة غير موجودة بعد. قد يتحول الخط بتمهل إلى شيء تشخيصي أوضح بفضل الصلات، إلى حيوان أو إلى برج، إلى شخصية أو إلى تل، ويمكن أن تتواجد معاً مختلف مسطحات الحيّ وترابطاتها المكانية في حالة من الحيزات الاحتمالية غير المتناهية من الإسقاط البصري. الخط مرسوم بشكل مفرد وبدقة ووعي ذاتي لكن شوقي –الرسام– يتابع الخط إلى أن يصبح عالماً على السطح "أعتقد أن لذلك ارتباط مع سوريالية سلفادور دالي أو ماكس إرنست. أشعر أن هناك تواصل مع الطريقة الذي حاولا من خلالها التعامل مع كافة التفاصيل بدقّة شديدة. الفكرة هي في جعل هذه التفاصيل مفصلة بما يكفي لإقناع الناس بوجود هذا الكلّ الهائل الذي يشكّلونه. بحيث لا يبدأون بالتشكيك. "14

المصادر

1 في حوار مع الكاتبة، نيويورك، 1 فبراير/ شباط، 2015.

2 الحوار نفسه.

3 الحوار نفسه.

4 (إعادة زيارة)، في سوزان بفيفر وهيكي "Revisitation"، جيسيكا مورغان كاتارينا مرتينس، إشراف على النشر، "وائل شوقي: العرابة المدفونة" (برلين، لندن، جائزة مؤسسة ارنست شيرينغ الفنية، كونيغ بوكس، 2014)، ص. 134.

5 (إعادة زيارة)، ص. 135 "Revisitation"، مورغان.

6 المصدر نفسه، ص. 136.

7 المصدر نفسه، ص. 135.

8 في حوار مع الكاتبة، نيويورك، 1 فبراير/ شباط، 2015.

9 ابن خلدون، "المقدمة" (برينستون: مطبوعات جامعة برينستون، الطبعة.الأولى، 1969)، الكتاب الأول، الفصل الأول. المرجع العربي: مقدمة ابن خلدون أو ص. 34.

10 المصدر نفسه.

11 حنة آرندت، "مفهوم التاريخ"، في "بين الماضي والمستقبل: ستة بحوث في (الفكر السياسي" (نيويورك: دار ذي فيكينغ بريس، الطبعة الأولى، 1954 الترجمة إلى العربية: عبد الرحمن بشناق، دار جداول للنشر والترجمة، بيروت، 2014.

12 هاينريش فون كلايست وتوماس نيوميلر، "حول مسرح الدمى"، مجلة، ذي دراما ريفيوف: المجلد 16، العدد 3، عدد "الدمية" (سبتمبر/ أيلول، 1972.26– الطبعة الأولى في ألمانيا 1810 )، ص. 22،، ذي دراما ريفيوف: المجلد 16، العدد 3، عدد "الدمية" (سبتمبر/ أيلول، 1972).

13 في حوار مع الكاتبة، نيويورك، 1 فبراير/ شباط، 2015.

14 الحوار نفسه.

نُشر هذا المقال سابقاً في دليل معرض "وائل شوقي: الحروب الصليبية وقصص أخرى ". صدرت الطبعة الأولى سنة 2016 عن منشورات سكيرا - شركة مساهمة محدودة. جميع الحقوق محفوظة © متحف: المتحف العربي للفن الحديث ومتاحف قطر، الدوحة، قطر.