سيرة ذاتية
التحق أكياڤاس عام 1951 بكليّة العلوم السياسيّة بجامعة أنقرة لتحقيق حلمه بأن يصبح دبلوماسيّاً. في عام 1952 ارتاد أكاديمية اسطنبول للفنون الجميلة كطالب زائر. وفي عام 1953، اتّبع دورات الفنان فرناند ليجيه والتي جرت في مرسم -مدرسة الفنان في باريس. انتقلَ إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1954 لدراسة العمارة في معهد إليوني للتكنولوجيا، أحد مراكز الباوهاوس الجديدة والمزدهرة. فُسّرت أحياناً هذه القائمة اللافتة من المؤسسات التعليميّة كامتياز طبقيّ. لكونِه ابنَ عائلةٍ ثريّة مثقفة وحريصة، كانت كل الوسائل متاحة لأكياڤاس للتركيز على أيّ دراسةٍ أرادها. لقد استثمرَ تلك الامتيازات لتنويع اهتماماته، ولم يكن مؤمناً بالتعليم الشامل وإنمّا بالفضول الفطريّ. كان يسعى دوماً نحو المستحيلات بدلاً من الاكتفاء بما قُدّم له.
في معهد إليوني للتكنولوجيا كان أكياڤاس أحد طلاب ميس فان دير روه، وقد كانت تلك آخر مغامراته التعليميّة. كثيراً ما اشتكى من كيف جعلهم فان دير روه يرسمون ويكررون باستمرار رسم لَبِناتِ واجهةٍ كاملة، بحيث لا يتقاطع أيّ جانب أو أيّ خطّ زاوية مع الآخر. بالرغم من ذلك، كانت تلك الجدران هي أوّل ما صوّره في مجموعة "يونس أمرِه"، والتي تلاها العديد من جدران المدن والجسور والمتاهات والقلاع، بُنيت جميعها في لوحاته لَبِنة بلبِنة وذلك على مدار أكثر من نصف قرن. فبعد أن أسّس فنّه على ألعاب الخوف والقوة، سافرَ عبر الزمن ليصوّر معركة كربلاء والحروب الصليبية وحرب فيتنام، والثورة الكوبية، وفلسطين، والبوسنة، والهرسك.
أفضى تدرّب أكياڤاس على وضع لَبِنة فوق أخرى أيضاً إلى فكرة تعدّد الطبقات التي سيتّبعها باستمرار طوال حياته. في أعماله، تتداخل العديد من المرجعيات من تاريخ الفن من الحدائق العثمانية إلى كاتدرائيات الباروك. لقد اختبرَ ما استطاع من موادٍ ضمن إطاراته الصندوقيّة الأيقونيّة، حيث اجتمع الخرز مع العظام وتشكّلت طبقات لا تُحصى، وحيث توّجت الشرائح الكتانية ذات اللون الدموي القادمة من أحد أطراف العالم، بأوراق الذهب القادمة من الطرف الآخر. لقد استخدم أكياڤاس الكولاج والصور المتراكبة في جميع أعماله تقريباً، الأمر الذي لم يكن مجرّد تقنيّة فنيّة، بل كان بمثابة رؤية للعالم بالنسبة إليه.
تظهر جماليّات الكولاج خصوصاً في صور مجموعة يونس إمرِه. في هذا العمل، بُنيَت متاهة ذات عُقد، لم تُبنَ بالطوب، بل نُسجت بالحبال وسطَ حديقة مشمسة محاطة برؤوس متموضعة بشكل عشوائيّ على خلفية داكنة. تمثّل متاهات أكياڤاس، الذي اعتنق الصوفيّة في أواخر حياته، رؤيته هذه. فلوحاته تعبّر عن الوجهات التي يرغب الناس في الوصول إليها عبر رحلاتهم الداخلية وعن المسارات التي اختاروا السير فيها للوصول إلى تلك الوجهات وكذلك عن البحث عن الحقيقة والمعنى.
صُنعت "الخيام" وهي من العناصر المعماريّة الأساسيّة في أعماله الفنية، من بصمات أصابعه. عندما ننظر عن كثب إلى الخطوط التي تحاكي التدليّ العمودي التلقائي لنسيج الخيمة، نصادفُ أثراً أساسيّاً من شخصيّته، إنها الخطوط الموجودة على جلد أطراف أصابعه. مجدّداً، يعود كلّ شيء نحو الباطن، فالملجأ الأساسيّ، وربما الأول المعروف بعد الكهوف، يقعُ في راحة اليد. بسطوتها وألوانها العميقة، تُهيمن "الخيمة الزرقاء Blue Tent" المتميّزة، أحد أبرز قطع سلسلة أخرى من أعمال الطباعة الحجريّة: "Miraçname" (باريس، 1987)، على المجموعة. يظهرُ العمل كأنه يصوّر انسحاب "العابر" من هذا العالم متجاوزاً كلّ ملجئٍٍ في طريقه للوصول إلى ملجئه الداخليّ.
يُعتبر حرف الواو العربيّ (و)، كما حرف الألف (ا)، رمزاً جمالياً معقداً، حيث تُعزى إليهما العديد من المعاني والأسرار في صناعة الأيقونات الإسلامية. بعد إنجاز عملية الطباعة، رسم أكياڤاس حرف الواو يدوياً باللون الأسود المخمليّ الكتيم على بعض إصدارات Miraçname، ولكنّه وضعه بشكلٍ مختلف تقريباً في كلّ مرة. كانت إيلونا أكياڤاس هي الفنانة الجرافيكية التي أشرفت على هذا العمل الدقيق. التقى بها إيرول أكياڤاس وتزوجا عام 1956 في ولاية أوهايو. وقد ساعدته في العديد من أعماله.
أخذَت الحروفُ والحروفيّةُ العربيّة المحدّدة التي عملَ عليها أكياڤاس لأولّ مرّة في سلسلة "يونس إمرِه" تصبحُ بارزة على وجه الخصوص عام 1959. اقتنى متحفُ الفن الحديث عمل "مجد الملوك The Glory of the Kings " من معرض أكياڤاس الذي افتُتح في العام ذاته في نيويورك. في هذا العمل وأعماله الحروفيّة المبكّرة، تمّ إبراز تكوين الحروف وليس معانيها أو دلالاتها. كان الفنان يرسمُ كعالم آثارٍ يوثّق كومةً من العظام البشرية من قبرٍ قديم. على هذا النحو، فإن تراكيبه المبكّرة، التي تُفسَّر عادةً كطغراء سلطانٍ أعلن حكمه للتو أو كراياتِ المتحاربين التي تَسمُ الخيام، قد جاءت على شكل تراكمات من اللطخات والبقع.
إن الحروفيّة التي اختفتَ لاحقاً من أعماله، قد عادت مع "الغيوم" في الثمانينيات، حيث وحينها فقط، ثَبُت حضورها.
لا تقلّ "غيوم" أكياڤاس شهرةً عن "خيامه"، وتأتي دوماً مكدسةً ومخطّطة حروفيّاً. هي تارةً تمثّل تهديداً معلقاً في سماء المدينة، وتارةً تبدو كأمواج بحر في خضمّ حروبٍ دامية، وتارة أُخرى تكون بصمات أصابعٍ. صارَت الحروف العربية الأكبر والأكثر وضوحاً، والتي بدأ بإدخالها في رسوماته في منتصف الثمانينيات، قارباً في بحر مضطرب، وجداراً يحيط بخيمة غير محروسة، أو شمساً حارقةً للسماء أكثر من الحروب التي تمزّق الأرض. بمرور الزمن، تكاثرت تلك الحروف واتصلت مع بعضها البعض متحولةً إلى نصّ، حيث ستظهر أعمال أكياڤاس المعنونة "فرمان" (مرسوم). وهكذا، فإن الواو في Miraçname، التي ظهرت تباعاً منذ منتصف مساره الفني، تقع في قلب تصورات أكياڤاس. بجانب اللطخات دمويّة اللون في "الفرمان"، تُضيف الواو ذات اللون الأسود القاتم في Miraçname بعداً آخر، مما يضاعف كثافة العمل تاريخياً وبصرياً. استمرّ أكياڤاس بإنشاء أعمالٍ رسمَ فيها بشكل متكرّر الخيام والفرمانات والرسائل والمتاهات والسحب والسيوف والكواكب والخرائط. وفي كلّ مرةٍ، كان يعيد النظر في أفكاره والمواد التي استخدمها.