السيرة الذاتية
كان عابدين دينو الأصغر بين خمسة أشقاء موهوبين بشكل لافت. كان والده كاتبًا ومترجمًا وكبيرَ الديوانيين، وقد أثّر حضوره الفكري الحاد في أبنائه. تعلّم عابدين الرسم على يد إخوته، ولا سيما شقيقه الأكبر عارف. قضى طفولته في جنيف مع عائلته، ثم انتقلوا إلى باريس عام 1920 قبل أن يعودوا إلى تركيا في عام 1923. التحق عابدين، وكان حينها في العاشرة من عمره، بالمدرسة الثانوية الأميركية روبرت كوليج في إسطنبول، لكنه ترك الدراسة بعد عامين. وبحلول عام 1930، كانت رسومه قد نُشرت في المجلات، وكانت كتاباته على وشك أن تُنشر أيضًا. كان شقيقه عارف فيلسوفاً وشاعراً ومقرّباً منه طوال حياته. ومع انخراطهما في صداقات مع رسامين وكتّاب ومفكرين وشعراء، نشأ عارف وعابدين معاً بكل معنى الكلمة. ومن بين هذه الصداقات، كانت علاقتهم بجارهم الخطاط الذي أثّر بعمق في أعمالهما. فبعد انتقال الأسرة إلى إسطنبول بوقت قصير، تعرّف الأخوان إلى الخطاط وأصبحا صديقين له. أظهر الخطاط لعابدين مهارته الفائقة، إذ لم يكتفِ بالسلاسة الخطية، بل أدخل أيضًا التراصّ في تصميماته للبلاطات، منفّذًا إياها دفعة واحدة دون تردّد، كما لو كانت بلمسة سحرية. منذ ذلك الحين، أصبح كل ما يبدعه دينو يقع في مكان ما بين الرسم والكتابة.
بالرغم من أنّه لم يوقّع على أيّ من أعماله من قبل، إلّا أن التخطيط الحروفيّ قد طوّع اسمه ليصبح رسماً، كانت رسوماته هي توقيعه، بل وكان توقيعه رسماً بحدّ ذاته. كان لدينو يدان حسّاستان بشكلّ استثنائيّ أصابع طويلة تنتهي بأظافر طويلة بدورها. في الواقع، كان جدّ الفنان، والذي سمي عابدين باسمه تيمناً به، يحمل لقب "اليدان الجميلتان beautiful hands". جسّدت الأيدي التي رسمها عابدين تقريباً بشكل يوميّ على مرّ السنين توقيعه.
عندما أشار كيف أن رسوم اليد كانت تخرج أحياناً عن سيطرته وكأنّها تبدأ في الارتسام من ذاتها، كان من المحتّم استدعاء "الرسومات التلقائية" "automatic drawings" التي ترك فيها السرياليون الخطوط تتأرجح بحرية على الورق قاطعين العلاقة مع الوعي. ينتمي دينو إلى جيل السورياليين ذاته، وبعد انتقاله إلى باريس في أواخر الثلاثينيات، قضى أوقاتاً كثيرة مع مؤسسي تلك الحركة، إلّا أنه قد أكدّ بأنه لم يكن على الإطلاق واحداً منهم. قبل باريس، عرضَ عابدين بشكل أساسيّ مع أصدقائه في اسطنبول ضمن "جماعة د" Group D، وهي حركة تركت أثراً عميقاً على الفن في تركيا من ثلاثينيات إلى خمسينيات القرن العشرين. على الرغم من أنّه يشار إليه كأحد مؤسسي جماعة د، إلّا أن ارتباطه بها كان عرضيّاً كما كان الحال مع السورياليين. كان التفكير والعمل مع الآخرين أمرَين ضروريين لعابدين، لذا نالت "جماعة د" إعجابه بطبيعة الحال باعتبارها حركة اجتماعية، لكنه لم يكن منتمياً إليها. لم تكن لغته الصُوَريّة تابعةً لجماعة أو مدرسة أو حركة ما، في الواقع، علّم نفسه بنفسه ليس الرسم فحسب، إنما أيضاً امتلاك أُذن رهيفة للجاز، ورقص التانغو، وكيف يُخرج فيلماً عن كرة القدم وينحت منحوتاتٍ صغيرة وكبيرة. باستخدام الصلصال قام بتشكيل أباريق على شكل مناقير الغربان، وكان يجمع بعفوية كلماتٍ لمسرحياتٍ أو مراجعاتٍ نقديّة فريدة.
بنشأته في أسرة وبيئة تتصفان بالغنى والفكر والإبداع، جمعَ عابدين دينو من حوله الأشخاص الذين اشتركوا معه بسِمات مماثلة.
إنّ جاذبية دينو أو هالته التي كانت ملحوظة من قبل العديد ممن أحاطوا به، وعلى وجه الخصوص زوجته جوزين، ترجع غالباً إلى قدرته على تحقيق أيّ ما أراد بسرعة. لقد كان فنّان زمنه لكنّه ظلّ شديد الخصوصيّة. لقد وصفه الكاتب يشار كمال Yaşar Kemal بعبارة: "the tone-setter" (ضابط النغمات) لم ينجرف أبداً مع الآخرين، وبقي بدلاً من ذلك يراكم الذكريات والتجارب ضمن حلقاته. عندما دُعي إلى الاتحاد السوفيتي بعد أن لفتَ انتباه المخرج الروسي سيرجي يوتكيفيتش لاستقرائه الحركة في رسوماته، أُعجبَ عابدين بشدّة بتمكّن الفنانين الروس، الذين أمضى معهم بعض الوقت في موسكو ولينينغراد وأوديسا، على التعايش معاً. أطلقَ عليهم اسم "artist-ocracy"( الفنانون الذين يحكمون ذاتهم بذاتهم). بعد قضاء وقتٍ في كل من أنقرة واسطنبول وأضنة، عادَ ليستقرّ في باريس عام 1952. مع الأخذ بعين الاعتبار اهتمام دينو عابدين برسم الأيدي حتى منتصف الخمسينيات، فإنه من المثير للاهتمام أنه بينما كان يزدهر في "artist-tocracy" خاصته (استقلاليّته)، تناولَ موضوعاً آخر سيكرره حتى نهاية حياته: الأزهار.
أصبح عابدين حقلة الوصل بين الفنانين مثل كوزجون أكار، وحقي أنلي، وكمال باستوجي، وألبرت بيتران، ونجاد ديفريم، وتيراجي ديكمن، وإلهان كومان، وفكرت معلا، وموبين أورهون. لقد عرّف أصدقاءه بعضهم ببعض وبتاريخ الفن التركي، ليس فقط على موائد العشاء، ولكن أيضاً في خطاباته التي لا تُحصى ومقالاته الإخباريّة ونصوص الكتالوكات. لقد عزّزت كتاباته حضور أصدقائه الفنانين، كما أتاح هو فنّه بسخاء لأصدقائه الكتّاب. رافقت رسومه الروايات والقصص القصيرة وكتب الشعر الأكبر وقعاً في عصره - بما في ذلك روايات ناظم حكمت، يشار كمال، مليح جودت أنداي، سعيد فائق أباسيانيك، وجولتن أكين.
صارَت رسومه المرافقة بالنسبة إلى العديد من القرّاء جزءاً لا يتجزأ من النصوص، لدرجة أصبح معها من الصعب تقريباً التعرّف على الكتب إن لم تُنشر مع رسومه المخصصة للأغلفة. قد تكون أكثر صفة مناسبة للتعريف بعابدين هي "الراوي". لقد روى تقريباً عن كل شيء: عن دراويش الأناضول والأديرة ومدمني المخدرات والمهاجرين والحياة الليلية في اسطنبول، وبيوت الدعارة أو حتى حرب الاستقلال، وكذلك عن الحرب الأهليّة الكمبوديّة والمظاهرات ومناجم الفحم والقسوة والزهور كلّها وأحياء العشوائيات التي نمت فيها الزهور والوجوه واحداً تلو الأخر، والأيدي العاملة كلّها، ولكن أيضاً عن مايو 68 في باريس، والثورة البلشفيّة، وكذلك عن تشيرنوبيل، ورُحّل الأناضول الذين كان معجباً بهم، والموسيقى الصوفيّة التي كان يستمع إليها بخشوع، ومذاق تفاحة. باختصار، لقد أعطى سرداً عن الحياة ذاتها، ليس فقط على اللوحات القماشية، إنما أيضاً على الأوراق السميكة المخصصة للرسم المائي، وعلى الأوراق الرقيقة المبللة التي تجعّدت على البلاطات وعلى الأظرف والمناديل وأحياناً على قطعة coaster من حانة ما من شوارع اسطنبول الضيقة.
عندما تُجمع قطع هذه الفسيفساء، فإن ما يظهر هو رواية عابدين دينو بوصفه سياسياً إنسانويّاً "homo politicus". اعتنق دينو الفكر الشيوعي منذ شبابه المبكر في اسطنبول. منذ كتاباته الأولى، كان دائماً في مشاكلات مع الشرطة، احتُجز مراتٍ عدة، ودُقق في أعماله الفنية عن كثب، واضطر إلى مغادرة البلاد. بالنسبة إليه، كانت الجماليات والسياسية مترابطة. انتقل سريعاً من رسم يديّ والدته وقدميها عند طفولته إلى رسوم التعذيب، حيث تُربط الأيدي بإحكام خلف جسدٍ مقيدٍ، ومنها انتقلَ إلى أيدٍ ترمي الحجارة. تستحضر مجموعة "رسم الألم Drawing Pain" التي استمرّ بها حتى آخر حياته رسومه المبكّرة عن التعذيب.