السيرة الذاتية
أحد أهمّ الحداثيّين، يمثّل أنور جلال شِمزا جيلاً من الفنانين الذين برزوا في أعقاب إنهاء الاستعمار في آسيا وإفريقيا. يمكن أن يصنّف فنّه جنباً إلى جنب مع فنانين آخرين من جنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ممن نشروا رسوم الحروف العربية بطرق مُجدّدة منذ منتصف الخمسينات وصاعداً.
مولوداً في شيملا بالهند عام 1928، لعائلة كشميريّة بنجابيّة امتلكت عملها الخاص في السجّاد والتطريز العسكري، التحق شمزا بالمدرسة العليا في لاهور. بعد عامٍ جامعيّ قضاه في قراءة الفلسفة والفارسيّة والعربيّة عام 1944، انضم إلى مدرسة مايو للفنون في لاهور. وبعد تخرّجه عام 1947، أنشأ استوديو للتصميم في المدينة. في العام ذاته، أدّى تقسيم مستعمرة الهند إلى دول ما بعد الاستعمار في الهند وباكستان إلى مقتل العديد من أفراد عائلة شمزا. لقد أثّرت هذه التجربة المؤلمة بعمق على تكوينه لاحقاً. خلال أواخر الأربعينيات وحتى منتصف الخمسينيات في لاهور، ارتبط شمزا بالمثقفين الأدبيّين الأوردييّن وكتبَ العديد من الروايات والمسرحيات الإذاعية في تلك الفترة. يظهر هذا التعرّض للمناقشات الأدبيّة والفنيّة في أعماله تالياً، تجاوباً مع كتابات راينر ماريا ريلكه وفنّ بول كلي، وفي اعتناقه للحداثة كممارسة عمليّة بطريقة منضبطة وصارمة جداً، والأهمّ من ذلك، في الدور الذي يلعبه كل من النصّ والحَرفيّة Lettrism في بناء التاريخ والذاكرة في أعماله. كان شمزا أيضاً مؤسّساً لدائرة لاهور للفن، وهي مجموعة مؤثّرة من الفنانين الشباب التي ضمّت بين أعضائها المؤسسين كلاً من شاكر علي وعلي إمام ومعين نجمي وأحمد برويز وشيخ سافدار، والذين خاضوا التجريب في الحداثة والتجريد خلال بدايات النصف الأول من الخمسينيات.
في عام 1956 انتقل شمزا إلى لندن للدراسة في مدرسة سليد للفنون الجميلة، كجزء من جيل الفنانين والمثقّفين من البلدان التي حصلت مؤخّراً على استقلالها من الإمبراطورية البريطانيّة. لدى وصوله إلى سليد، عانى شمزا من أزمة وجوديّة، لخّصها بوضوح في بيان كتبه عام 1963، والذي برَع في توضيح معضلات المنفى للعديد من فناني الشتات الآخرين في ذلك الوقت. كان الأمر الكارثيّ بالنسبة إليه اعتبارات المؤرخ الفني إرنست جومبريتش لفنون غير الغرب على وجه الخصوص. "في أحد المساءات، عندما كنت أحضرُ محاضرة أسبوعية في مدرسة سليد حول تاريخ الفن، تطرّق البروفيسور جومبريتش إلى الفصل الخاصّ بالفن الإسلامي فنّاً كان "وظيفي" [وفق لجومبريتش]…. [في وقت لاحق من ذلك اليوم] دمّرتُ لوحات ورسومات وكل ما يمكن تسميته "فناً".... كان الاضطراب ينقلني طوال اليوم من مكان إلى آخر، حتى وجدت نفسي في القسم المصري بالمتحف البريطاني. … لم يعد الجواب البدء من جديد فحسب، بل كان البحث عن هويّتي، من كنتُ؟ … كنت منفياً، بلا مأوى، بلا اسم." كانت أزمة شمزا الوجوديّة فنيّة وشخصيّة على حدّ سواء.
بالرغم من أنّ لندن كانت مدينةً مبهجة، إلّا أنها كانت منفّرةً بالقدر ذاته. خلال سنوات مدرسة سليد (1956–1960)، أصبح الكثير من فن بول كلي ـالذي يتميّز بشكل عامّ بأنه مساحة للتجريب الحداثيّ والحريّة وإمكانية نشر التجريد والهندسة والتكرار الزخرفي- المستمدّ من الفن الإسلامي، جوهريّاً لتطوره اللاحق. بدأ شمزا بصياغة أعمال تعتمد على حياته الشخصيّة ومعرفته المكتسبة والخبرة بأنماط السجّاد وأشكال الخطوط والهندسة المعماريّة المغوليّة في لاهور.
في عام 1957 التقى شمزا بماري تايلور وتزوّجا بعد ذلك بوقت قصير. وفي عام 1961 استقرّت العائلة بشكل دائم في انجلترا في منطقة ميلاندز قريباً من والديّ ماري. عرضَ شمزا على نطاق واسع في المملكة المتحدة وباكستان وعلى المستوى الدوليّ في المعارض الفرديّة والجماعيّة، لكن وجوده في الشتات كان حالة جوهريّة لم تنتهِ حتى وفاته المفاجئة عام 1985. كانت لندن منذ منتصف الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات مركزاً هامّاً للفنانين من خلفيات متنوعة ممن صنعوا وعرضوا الأعمال الإبداعيّة. وإذ تمّ إدراج وضمّ أعمال العديد من الفنانين المعاصرين من المناطق المستعمرة رسميّاً تحت مسمّى "الكومنولث"، أتاح هذا المصطلح فرصاً للعرض.
بحثَ شمزا في العلاقة بين الممارسات البصريّة والنصيّة في تركيباته الحداثيّة، متّخذاً من الزخارف البصريّة الإسلاميّة والأشكال الخطيّة مرجعيّةً له. تكرّر استكشافه للعديد من الزخارف جدران المدينة والعمارة ولوحات الدارات الإلكترونيّة وزخارف الشطرنج وحرف الميم (وهو الحرف الأول في اسم النبي محمّد)- وغيرها. عبر تجريب الإجراءات التقنية المبتكرة، أدخلَ إلى العديد من الأعمال إشاراتٍ إلى الأقمشة والمنسوجات. لقد استخلص من تجاربه ممارسةَ شكليّة ممنهجة، اعتمد معظمها على الأشكال الهندسية والتي كان دورها توفير مجموعة محدودة ومرنة من لبنات البناء.
اعتُبر الكثير من أعمال شمزا من المرحلة المتوسّطة من حياته المهنيّة كمعالجة تشكيليّة للدائرة والمربّع بما يذّكر بالحرفين B وD في الأبجديّة اللاتينيّة. ومع ذلك، فإن الأبعاد الخطوطيّة في العديد من السلاسل، خصوصاً "جذور Roots"، أتت مرسومة انطلاقاً من الخطوط المتعرّجة للأبجديّة العربيّة أيضاً، في مغامرة نحو ما هو أبعد من التجريد الهندسيّ الصارم، مما خلق تشاحناً بين الكتابتين. كانت سلسلة "جذور" آخر مشاريعه الكبرى، هي التي استمرّ بإنجازها منذ العام 1977 حتى وفاته. من الناحية البنيويّة، غالباً ما جاءت في النصف العلوي من الصورة أشكالٌ وُرَيقيّة مُتخيّلة، بينما صوّرَ النصف السفليّ أشكالاً جذوريّة. تتبّع هذه الأعمال قلق تجربة الشتات عبر لغة رسميّة محدودة مبنيّة على الحروفيّة والتصميمات الزخرفيّة المستلهمة من السجّاد والمنسوجات الشرقيّة، ولربما تكون ذكرى لتجارة السجّاد التي كانت تمارسها عائلته في جنوب آسيا قبل التقسيم. تتّسم تلك الأعمال، ذات المقاسات الصغيرة، بسهولة نقلها، وتستحضر أعمالاً لفنانين آخرين تصارعوا مع احتمالات نقل الشكل الفني، في سياق المنفى والشتات. لقد وضَعت سلسلة "جذور" الصلات بين الزخرفة والحداثة على مِحكّ أزمة، مشيرةً على وجه الخصوص إلى أنّ الحداثةَ قد اتّكأتْ على فنون العالم غير الغربيّ اتكاءً جوهرياً لم تعترفْ به كبرى المؤسّسات الغربيّة إلا مؤخّراً. علاوة على ذلك، فإن جذور الأشكال النباتيّة في تراكيب شمزا النصيّة والحَرْفيّة، تقترح أن عودة المرء إلى جذوره لم تعد ممكنةً على أساس الدم أو التربة أو الانتماء القومي، بل إن الجذور نفسها أصبحت الآن عابرة للقوميّات في قيمتها التاريخية والمعاصرة.