السيرة الذاتية
لم يكن أحد يتوقّع أن تحتل امرأة أميّة عصاميّة مثل الشعيبيّة طلال هذه المكانة الفنية المرموقة محليّاً وعالميّاً. قبل ذلك، كانت مريم مزيان ذات الأصول البورجوازية، المغربية الوحيدة التي سبقتها إلى الدخول إلى الفن. تزامنت تجربة الشعيبيّة الفنيّة مع الحركة الفنيّة المغربيّة الشابة التي كانت تسعى جاهدةً إلى التخلّص من الآثار الثقافيّة والبصريّة للاستعمار. ما جعلها مع مجموعة فنانين عصاميّين آخرين عرضةً للهجوم من قِبَل فناني مدرسة الدار البيضاء، أمثال فريد بلكاهية (1934–2014) ومحمد المليحي (1936–2019) ومحمد شبعة (1935–2013)، الذين اعتبروا هؤلاء الفنانين الفطريين مجرّد مظاهر للاستعمار الجديد. بيد أن هذا الموقف سيتغير جذريّاً بعد سنوات قليلة، إذ سيدفع دخول الشعيبية إلى الفن بالكثيرات إلى ارتياد هذه التجربة، كفاطمة حسن (1945–2010) وبنحيلة الركراكية (1940–2009) وفاطنة الغبوري (1924–2012) وغيرهن.
ولدت الشعيبية طلال في قرية اشتوكة في غرب المغرب، ولم تتح لها فرصة الالتحاق بالمدرسة. وكعادة سكان البوادي، زوَّجتها عائلتها لرجل عجوز من جنوب المغرب وهي ما زالت في الثالثة عشرة من العمر. لسوء الحظ، توفي زوجها بعد عامين في حادث سير، مخلّفا لها ابناً اسمه الحسين.عزَفت الشعيبية عن الزواج مرة ثانية رغم جمالها، وفضّلت العمل في خدمة البيوت والاكتفاء بتربية ابنها الوحيد الذي سيغدو فنّاناً معروفاً.
أظهر ابن الشعيبيّة، الحسين طلال، موهبةً في الرسم منذ نعومة أظفاره، ولقد امتلك استوديو خاصاً به، ومن المرجّح أنّه كان سبباً مباشراً في تأجيج رغبة الشعيبيّة في الرسم. تروي الشعيبية عن دخولها إلى عالم الفن كحكاية أشبه بالأسطورة. فقد جاءها في الحلم، وهي ابنة الخامسة والثلاثين، رجال مدثَّرون بالأبيض ليمنحوها الفراشي والأصبغة، وقد أوحوا لها بأنه من الآن فصاعداً سيتم إطلاق العنان لبراعتها الفنيّة من خلال ممارسة الرسم. فخرجت في اليوم التالي رفقة ابنها واقتنت علباً من الأصبغة العادية التي تُستعمل في طلاء الأبواب وشرعت في الرسم، قبل أن تقتني الألوان الزيتية وتستعملها.
وكان أن زارها يوماً الناقد الخبير في الفن المغربي بيير غوديبير (1928–2006) برفقة الفنانَين المغربيَّين المعروفَين آنذاك أندريه الباز (1934–) وأحمد الشرقاوي (1934–1967) فأطلعتهم على أعمالها. ومنذ ذلك الحين، أصبح لغوديبير دور فعّال في مساعدتها لعرض أعمالها الفينّة. وقد حظي أوّل معرض لها في باريس عام 1966 بحفاوة باهرة. على ملصق هذا المعرض، ظهرت الشعيبية كشابة خجولة كأنها خارجة لتوّها من عمق الصحراء المغربيّة.
توالت معارض الشعيبيّة، وحظيت أعمالها باهتمام كبرى المتاحف المتخصّصة في الفن الفطري والفن الخام. تعاقدت معها صاحبة غاليري "لوي دو بوف" (L'œil de Boeuf) في باريس فأصبحت أعمالها تُعرض هناك بشكل موسميّ. وما هي إلا سنوات قليلة حتى باتت الشعيبية من أهم الفنانين المغربيين الأحياء، وأصبحت ظاهرةً فريدةً في الفن العربي إلى جانب باية محي الدين (1931–1998) وفخر النساء زيد (1901–1991). عُرضت أعمال هذا الثالوث النسائي وباحتفاء في معهد العالم العربي في باريس عام 1990. كما كرّست العديد من المجلات العالميّة مقالات عنها وتصدَّرت صورتُها أغلفتها.
اشتهرت الشعيبيّة بأسلوبها الفريد في معالجة موضوعاتها التي استلهمتها من الحياة اليوميّة والذاكرة الطفوليّة والطبيعة. وفي حين رُبطت أعمال باية الجزائرية بالسوريالية، نُسبت أعمال الشعيبيّة إلى حركة كوبرا (Cobra) التي عُرفت باستلهامها من الفنون الشعبية. غير أن أسلوب الشعيبية لم يكن يهدف إلى خلخلة المعطيات الفنيّة الراسخة، إنما قد انبثق عن مخيلتها وأحاسيسها المباشرة. من ثمّ، فإن ذلك التقارب الملحوظ قد تمَّ بمحض الصدفة، إذ أن فناني حركة كوبرا ابتكروا فنّهم من خلال الرغبة والإرادة والإدراك والغاية. أما ما خرج من أنامل الشعيبيّة فقد كان تعبيراً عن أحاسيسها ومخيلتها الخصبة (حسب ما أسرَّت إلى صديقتها عالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي (1940–2015)) زخرت أعمالها الفنيّة بألوان شقائق النعمان وجمال زهور الأقحوان التي كانت تصنع منها في صباها تيجاناً تتزيَّن بها.
خلافّاً للفنانين الفطريّين من معاصريها، ركّزت لوحات ورسومات الشعيبيّة بشكل أساسيّ على الوجوه والحركات بعيداً عن المحاكاة التبسيطيّة. لقد ركّزت على العناصر المركزيّة في المشاهد مع تجاهل التفاصيل، لتصوغ بذلك جوهر اللوحة في حركة متناسقة موحّدة. لذا تبدو أعمالها أشبه بسلسلة كبيرة لا تنتهي من اللوحات التي تتقاطع شخصياتها ووجوهها وكأنها أُنجزت في وقت واحد. لم تكن مهتمّة بمزج الألوان والتظليل المعقد، بل حافظت على الألوان الأساسيّة المطبوعة في ذاكرتها وكيانها. وقد أكدّت هذا "الاختيار" قائلةً: "أنا أكرّر نفسي. لكن ذلك أمر مهمّ. أنا فنانة تلوينيّة. ألواني تعبّر عن الحياة والطبيعة. أنا لم أتغيّر قط."
ظلت الشعيبيّة طيلة حياتها الفنية وفيّة لعالمها ولأسلوبها الفني تنهله من مَعين تجربتها ورؤاها وأحلامها ومحيطها. يتفرّد عالمها مثل جزيرةٍ مستقلة ضمن المشهد الفنّي المغربي والعربي. فهو الوقت ذاته بسيط يكشف عن خيال وقّاد، ومعقّد بتحديه حتى أمهر تقنيات الصياغات الجاهزة. وبهذه الشخصية الاستنثائية، أضافت الشعيبيّة على الفنين المغربي والعربي بعداً عالميّاً متميزاً. ولشعبيّتها، خلّدت السينما المغربية ذكراها من خلال فيلم سيرة ذاتيّة تناول حياتها وشبابها وصدر عام 2015.
كرّست الشعيبيّة نفسها لممارسة الفنّ حتى آخر حياتها. وفي فترة مرضها الأخير، احتفَت بها قاعة باب الرواح الوطنية في معرض استعادي كبير شهد من خلاله الناس ارتجاف أناملها. كانت تلك هي آخر لوحاتها قبل أن توافيها المنيّة في 2 أبريل 2004 في الدار البيضاء.