السيرة الذاتية
يُذكر حافظ الدروبي (1914–1991) في المقام الأول لعمله معلماً ومطوّراً للتربية الفنية في العراق خلال سنوات منتصف القرن العشرين، غير أنه رسام نشط كذلك، وقد تمتع بموهبة عالية في التقاط جمال الحياة اليومية من خلال معالجة معقدة مع الأشكال والألوان. يعتبر الدروبي أحد رواد الفن العراقي الحديث لكونه قدّم مساهمات مبكّرة عديدة من أجل تطويره.
بدأ الدروبي تعليمه الرسميّ في الفنون في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، فكان أحد أوائل الفنانين العراقيين الذين درسوا الفنّ في الخارج. نال لاحقاً البكالوريوس من كلية غولدسميث في جامعة لندن سنة 1950. بعد دارسته في روما، عاد إلى العراق وأصبح مشاركاً نشطاً في ساحة الفن الناشئة. اتخذ الفنان خلال فترة تكوينه الفني بين روما ولندن خطوات عدّة من أجل رفع ممارسة الفن في العراق إلى مستوى مهني. في عام 1941، أسّس أوّل مرسم عراقيّ حرّ، ما أتاح للفنانين الطموحين أن يتعلّموا ويمارسوا صناعة الفن. خلال العقد التالي، افتتح الدروبي مراسم أخرى مشابهة في كلية الفنون والعلوم التابعة لجامعة بغداد، حيث استطاع الإشراف على المواهب الجديدة وتشجيعها. افتتحت مراسم عدة أخرى على غرار الأخيرة حول بغداد، وكان يشرف على كل مرسم منها فنان معروف. أثبت هذا النظام فعاليته إذ أن العديد من مشاهير الرسامين العراقيين تلقوا تدريبهم الأوّل في تلك المراسم.
كان الدروبي كذلك عضواً مؤسساً لجمعية أصدقاء الفن التي ضمت آنذاك كلاً من جواد سليم (1919–1961)، وفائق حسن (1914–1992)، وعبد القادر الرسام (1882–1952). تأسست هذه الجمعية عام 1941 وكانت أوّل مبادرة فنيّة رسميّة في العراق. كانت تهدف إلى توفير مكان ثقافي للفنانين من أجل التحاور فيما بينهم حول ممارساتهم الفنية، وكذلك إلى إنماء الذوق الفنيّ لدى الجمهور العام. من وسائل الجمعية لتحقيق هذا الغرض كان تنظيمها معارض سنوية. أتاح هذا النشاط عرض أعمال الأعضاء أمام المجتمع الفني مما شجع النقد الفنيّ الجماعيّ. عرض الدروبي مراراً مع هذه المجموعة.
في عام 1953، أسّس الدروبي "جماعة الانطباعيين" وكان ذلك بمثابة امتداد لنشاطه في التربية الفنيّة. التزمت الجماعة بمنهج الدروبي التربويّ إلى حد كبير وتألفت من طلابه وزملائه بما فيهم ضياء العزاوي (مواليد 1939). على الرغم من هذه التسمية، تناول أعضاء جماعة الانطباعيين العمل الفني من زوايا تقنية وأسلوبية مختلفة، لم يكن تطوير أسلوب موحّد هدف أعضاء الجماعة، بل ترسيخ موقف جماعي تجاه تعليم الفن. عزز هذا الموقف روح التجريب لدى الجماعة خلال دراسة أعضائها للحركات الأوروبية الطليعية وتفسيراتهم للمشهد العراقيّ.
كرس الدروبي جهوده الفنيّة لهذه الانتقائية بصفة خاصة. طوال مسيرته الفنيّة، حافظ الفنان على إخلاصه لمواضيعه المفضلة التي لم تبتعد إلا فيما ندر عن الشوارع والأسواق ودواخل المدن والقرى العراقيّة. غير أنه كان يتنقل بحرية بين كل من الأساليب: الواقعي والانطباعي والتكعيبي، متناولاً في بعض الأحيان أكثر من أسلوب واحد بين هؤلاء للحصول على نتيجة فريدة من الألوان والأشكال. استخدم الدروبي بمهارة الضوء والظلال في أعماله من أجل خلق تفاعل حي بين العناصر المكانية.
على الرغم من احتوائها على عناصر تجريديّة، تحمل لوحات الدروبي في كثير من الأحيان طابعاً إعلاميّاً، فهي تلتقط تنوع المجتمع العراقي واللحظات الجوهريّة الأصيلة من حياته: يوم في السوق، تناول مشروب في المقهى، أو أحد أعمال ما بعد الظهيرة الرتيبة. إن أعمال الدروبي المتمحورة حول الحياة في بغداد بشكل رئيسي، تُقنع المشاهدَ يأصالتها التمثيلية من خلال بساطتها، لكنها مع ذلك تُثير إعجابه بجمالها وتفاصيلها وروعتها. بالنسبة للدروبي والعديد من معاصريه، كان العادي جديراً بالتصوير لأنه يُشير إلى صورة ذاتية وطنيّة جماعيّة. بمعنى آخر، كانت لموضوعاته أهمية في هويتها العراقية المُتصوّرة.
عُرف الدروبي بأعماله التكعيبية، غير أن مدى التزامه بالصيغ التكعيبية كما كانت تمارس في أوروبا هو موضوع قابل للنقاش. ومن هنا، يمكن القول إن أعماله تظهر مرجعيّة جماليّة نابعة من الميول التكعيبيّة في تجزئة العناصر المكانية وتغيير المنظور. غير أن استخدامه المتنوع لهذه التجزئة وإصراره على الاحتفاظ بالأشكال الطبيعية هو توجّه فريد وخاص به. ليس من غير المنطقي القول إن الدروبي رغب في تصوير الضوء والظلال والألوان كما كان يراها في البيئة العراقية مستخدماً التكعيبية كصيغة جمالية بصفتها نقطة بداية ملائمة. لعب كذلك التراث الإسلاميّ في رسم المنمنمات، التي تسمح بتصوير مشاهد متعددة في لقطة واحدة ثابتة، دور الأساس الجماليّ في أعمال الدروبي وزملائه.
عرض الدروبي أعماله طوال مسيرته الفنية في مختلف البلدان والأماكن، وقد عرض بكثرة مع كافة الجماعات التي انتمى إليها، بما فيها جمعية أصدقاء الفن والانطباعيين. اشترك الدروبي أيضاً في "معرض ابن سينا" عام 1952 في بغداد. كما عرض أعماله في معارض جماعية عراقية مختلفة في أوروبا، وشارك في معرض بيروت للفن العراقي المعاصر عام 1965، والذي انتقل لاحقاً إلى روما وفيينا ومدريد. إلى جانب تاريخه الحافل بالمعارض، نال الدروبي جوائز تقديرية تشهد على دوره الرئيسيّ في تأسيس الفنّ العراقي الحديث. حصل على عدد من الجوائز الفخريّة من جمعية الفنون التشكيلية العراقية، وكان واحداً من أربعة فنانين تم تكريمهم في مهرجان الواسطي للفنون الجميلة عام 1972.
يعتبر الدروبي شخصية محوريّة في تطوير الحداثة داخل العراق وخاصة في مجال التربية الفنيّة. في سياق مسيرته المهنية التي شملت عمله في مناصب هامة مثل عمادة أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد ورئاسة جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، أبدى الدروبي التزاماً عميقاً في توفير المعرفة والموارد للأجيال التالية. وبالفعل كان له دور فعال في غرس قيم التربيّة الفنيّة لدى طلابه وزملائه.
من الممكن مشاهدة أعمال الدروبي اليوم في مواقع عدّة من مختلف أنحاء العالم، بما فيها المتاحف والأبنية العامة والجامعات؛ وفي مقدمة تلك الأماكن متحف: المتحف العربي للفن الحديث، في الدوحة، والمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة في عمّان. كانت أعماله محفوظة كذلك في المتحف العراقي للفن الحديث في بغداد المعروف سابقاً باسم مركز صدّام للفنون، غير أن العديد من تلك الأعمال سرق من مجموعة المتحف ولم يتم استرداده بعد.