سيرة ذاتية
كان الفنان والناقد والناشط والأيديولوجيّ جاغديش سواميناثان أحد أكثر الشخصيات تأثيراً في الفنّ الهنديّ من القرن العشرين. إن ميله اللاسلطويّ وروحه المُعارِضة لم يفشلا يوماً في زعزعة مثاليات عالم الفنّ الهندي المكرّسة. كان واحداً من أبناء راو صاحب إن ڤي جاغاديسا آير وساراسواتي الأحد عشر، وُلِد عام 1928 لواحدة من عائلات تاميل برهمين. كان والده سكرتيراً خاصّاً لعضو التجارة في المجلس الملكيّ في مستعمرة الهند. في عام 1942، عام انتهاء سواميناثان من المدرسة، أطلق المهاتما غاندي حركة "اتركوا الهند"، مطالباً بإنهاء الحكم البريطانيّ. كانت روح العصيان المدنيّ تلوح في الأفق. عام 1943، التحق سواميناثان بدروس الطب التمهيديّة في "كليّة دلهي الهندوسيّة"، ولكن بعد بضعة أسابيع فقط، هرب إلى كلكتا التي كانت قد اجتاحتها "مجاعة البنغال"، وهي كارثة حرب دُبّرت من قبل النظام الاستعماريّ البريطانيّ.
عندما رأى سواميناثان، الذي لم يكن قد تجاوز الخمسة عشر عاماً آنذاك، الناس يموتون جوعاً في شوارع كلكتا، أصبح متطرفاً بالأفكار الثورية. عاد إلى دلهي وانضمّ إلى حزب الكونغرس الاشتراكي، الجناح اليساريّ للكونغرس الوطنيّ الهنديّ. تعرّف سواميناثان بالفكر الماركسي على أيدي نشطاء الحزب رام مانوهار لوهيا وإيداتاتا نارايانان وأرونا أساف علي. وكتب سواميناثان في مذكراته أنّ نشأته السياسيّة والأدبيّة في حزب الكونغرس الاشتراكيّ كانت متأثرة بأدبيات غير شيوعية، بل مناهضة للشيوعية. وقد كتبَ في المذكرات نفسها أنه كان لديه "معرفة مسبقة بالجرائم التي ارتكبها النظام السوفييتي ضد حرية الإنسان." (كاليداس 2012، 18). كان ماكس إيستمان وهارولد لاسكي وروزا لوكسمبورغ وإجنازيو سيلون وآرثر كويستلر من بين المثقفين والثوريين الذين قرأ لهم آنذاك. ومن بين تلك الشخصيات من كان ناقداً لتحوّل الستالينيّة الاستبداديّ القاتل، وهو ما رأوه تحديداً خيانة لمُثل الشيوعية.
عندما حصلت الهند على استقلالها عام 1947، انفصل حزب الكونغرس الاشتراكي عن الكونغرس ليقدّم نفسه بصفته "حزب الهند الاشتراكي". ولكن سواميناثان اختلف مع مؤسّس حزب الهند الاشتراكي، جايا براكاش نارايان، الذي أراد تحويل الحزب من منظمة قائمة على كادر، إلى جمعية تكون العضويّة فيها جماهيريّة مفتوحة. (كالدياس 2012، 18). مأخوذاً بأمل التغيير الثوريّ، انضمّ سواميناثان عام 1948 إلى حزب الهند الشيوعي وعمل ضمنه في جبهة الشباب. للأسف، كان حزب الهند الشيوعي تحت قيادة بي تي راناديف، منخرطاً فيما أطلق عليه لاحقاً "مغامراتيّة اليسار". لقد خشيَ سواميناثان أن يؤدي تأييد راناديف لثورةٍ دمويّة إلى تدمير الحزب. وفي عام 1956، عندما غزا الاتحاد السوڤيتي هنغاريا، لم يعد سواميناثان قادراً على التساهل مع هذه الإساءة الستالينيّة. هذا ما جعله يدرك جميع أخطاء هذه السياسة الاستبداديّة القائمة على "الأكاذيب والافتراءات"، فقرّر ترك الحزب. (كاليداس 2012، 22).
قبل عام من غزو السوڤييت لهنغاريا، كان سواميناثان قد تزوّج من بهاواني باندي، بعد أن أُغرم بها أثناء حملة انتخابيّة. في عام 1955، أثناء شهر العسل في بتول في ماديا براديش، كان قد بدأ في رسم الأشجار والوجوه. كان للقائه المبكّر مع الأديڤاسي أو السكان الأصليين للهند تأثير دائم على ممارسته الفنية، خصوصاً مع معالج "كوركو" تقليديّ مع تعاويذه الشامانيّة. عند عودته إلى دلهي، تلقّى دروساً مسائيْة في الرسم في "بوليتكنيك دلهي". ولمّا كان سواميناثان منبهراً بشخصيّة أستاذه سيلوز موخيرجي، كثير الشرب وبوهيميّ الطابع، فقد انجذب أيضاً إلى قدرة الفنان الأكبر سنّاً على التجاوب مع الطبيعة بطريقة "متحررة"، طريقة "لا تقبل بهيمنة الإنسان على الطبيعة". (كاليداس، 2012، 25). تكشف نظرة سواميناثان إلى فنّ موخيرجي عن موقفه في الحداثة النهروية في هند ما بعد الاستقلال، حيث كانت الأشكال التقليديّة للحياة، تلك المتوافقة مع الطبيعة التي كانت قد دمرتها قوى الاستعمار، تتعرض للتآكل أكثر فأكثر بسبب السدود والصناعات الثقيلة والتي سمّيت بصروح التقدم الجديدة.
في ظلّ سياسة عدم الانحياز التي اتبعتها الهند خلال فترة الحرب الباردة، حصل سواميناثان على منحة زمالة لتعلّم فنّ الطباعة في وارسو عام 1958. عاد إلى وطنه دون أن ينهي الدورة. بحلول عام 1960، أقام أوّل عرضٍ بارز له، وإن كان ضمن معرض ثلاثيّ، حيث نالَ تقييمات جيدة. من أواخر الخمسينيات وحتى الستينيات، ساهمَ سواميناثان في كتابة مراجعات فنية لمجلّات يساريّة مثل مجلة "لينك" ومجلْتين شقيقتين هما "باتريوت" و"هندي باتريوت". تُبيّن تخطيطاته ورسوماته التوضيحيّة لأغلفة المجلات في أواخر الخمسينيات تأثّره بمعاصره الفنان الهندي رام كومار وببيكاسو. لقد أشارَ سواميناثان إلى سلسلة "مدينة حزينة" لكومار في إحدى رسوماته "بدون عنوان" (13/8/1957). ومن المثير للانتباه بشكل خاص تلك الخربشة الباهتة للغاية في الهامش: "عبء القرون [القرون الزمنيّة]". (كاليداس، 2012، 52). تستحضر هذه الكتابة تحذير ماركس في مقالته الشهيرة "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت"، من أنّ "تقاليد الأجيال الميتة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء". يمكن تفسير هذا الاستحضار على أنّه قلق سواميناثان إزاء التأثير الراسخ للمدارس أو الحركات السابقة ضمن الحداثة العالميّة أو الهندية على عدد من أقرانه، حيث كان يشعر بالحاجة الملحة لبلوغ الانفتاح.
بعد بضع سنوات، في عام 1963، غذّى هذا القلق بيانه لجماعة 1890، والذي ضربَ مفاصل أولى مدارس الحداثة الهندية "الطبيعويّة العاميّة لراجا رافي فارما، والمثاليّة الرعويّة لـمدرسة البنغال، وكذلك "الطرائق الهجينة" الناتجة عن "فرض" الجماليات الأوروبيّة على "الأنماط الكلاسيكيّة والشعبيّة والمنمنمات" (كاليداس، 2012، 70). وبدلاً من الفن الذي يصف الحالات الإنسانيّة أو يمثّل الظروف الاجتماعية، حاججَ الفنان بقوله: "الفن ليس امتثالاً للواقع ولا هروباً منه"، وأكدّ أن "الفن هو الواقع نفسه، عالم آخر من التجارب..". (كاليداس، 2012، 71). كانت "جماعة 1890" عبارة عن مجموعة من 12 فناناً من الرجال فقط، من بينهم جيرم باتيل، وجيوتي بهات، وغولامحمد شيخ، وسوامينثان. افتُتح عرضهم الأوّل والوحيد في رابندرا بهافان في دلهي عام 1963 من قبل رئيس الوزراء جواهرلال نهرو، وبتقديم أوكتافيو باز، الشاعر والسفير المكسيكيّ في الهند آنذاك. لم يتوقف باز عند دعم الجماعة فحسب، وإنما شجّع سواميناثان لإطلاق مجلةٍ للخطاب النقديّ. وقد جاء اسم "كونترا" مناسباً للإشارة إلى موقف المجلة الجداليّ للفنانين والنقاد على حد سواء، ولكنها لم تدم طويلاً. وكما تقول جيتا كابور في كتابها "تواقيع المعارضة Signatures of Dissent"، "لم تكن كونترا انشقاقاً وحسب، بل كانت مثل سوامي (سوامينثان) نفسه: مُناقِضة". (كابور، 2001، 78) إنها مساحة لإظهار موقفه الراديكالي باعتباره "ربيباً للتقاليد السريالية الآناركيّة" (كابور، 2001، 79)
شهد عام 1966 تحولاً بارزاً في لوحة سواميناثان. وكما بيَّن ابنه الناقد الفني إس. كاليداس، فلقد تخلّى سواميناثان في تلك المرحلة عن "قرون البيزون المستوحاة من رسوم كهوف عصور ما قبل التاريخ" وعن "مرحلة التانترا الجديدة التي تضمّنت النطاف والثعابين بين عامي 1963 و1964" (كاليداس 2012، 15). في نص الكتالوك المصاحب لمعرضه "هندسة ألوان الفضاء [فضاء اللوحة]". في مارس وأبريل 1966، استكشف سواميناثان الأبعاد الغامضة والسحريّة الكامنة وراء تجسيد الأشكال الهندسيّة بالألوان. لم يتم إحياء الفضاء من خلال التحليل، إنما تم إبرازه عبر اللون وبأشكال فتحت نوافذ جديدة على أفق الأفياكتام أو "المستتر". (كاليدا 2012، 80). لصنع هذه السلسلة، استغرق سواميناثان في دراسة منمنمات الباهاري وفن التانترا، بالإضافة إلى حكم الأبانيشاد.
في عام 1968، حصل سواميناثان على منحة جواهرلال نهرو. سمح له ذلك بدراسة "معنى مفهوم النُومَن (الألوهيّة) التقليديّ في الفنّ المعاصر". لقد تبنّى مفهوم الباحث والقيّم فيليب راوسون حول الصورة القدسيّة النابضة بالطاقة الإلهية غير القابلة للتفسير. لقد ركز على أشكال الفنّ التي مارستها المجتمعات الرعوية والأديڤاسي في ثلاث مناطق: كينور في هيماشال براديش، وباستار في ماديا براديش، وكوتش في ولاية غوجارات. كانت أطروحته تقول إنّ "الخيال المتجسّد الذي يعتمل في منمنماتنا، والاستخدام المهدّئ ذهنيّاً للألوان في رسوم تانترا والاستخدام الهندسي للمساحة في جميع لوحاتنا التقليدية، جميعها له غاية واحدة: عدم تمثيل الواقع أو حتى تحليله، إنما خلق تلك الصورة الخارقة للطبيعة، التي تُلهم الإنسان لمواجهة الواقع." من اللّافت أن هذه الأطروحة قد صِيغَت في واحدة من تأملّات عام 1967 بعنوان "الوعد الجديد" والتي كتبها سواميناثان رداً على النقاط التي أثارها الناقد الأمريكي المؤثر كليمنت جرينبيرج الضليع في التعبيريّة التجريديّة، أثناء زيارته للهند في ذلك العام (كاليداس 2012، 108). حملَ سواميناثان هذه الأفكار المتعلّقة "بالصورة الخارقة للطبيعة" إلى سلسلته التالية، مجموعة مناظر طبيعية ميتافيزيقية أخّاذة عنوانها "طائر-شجرة-جبل" والتي استمرّ في رسمها حتى منتصف الثمانينيات. في السنوات الأخيرة من حياته، عاد بما يثير الدهشة إلى لوحات الكهوف وجدرايّات الأديڤاسي، التي ألهمته قبل ثلاثة عقود.