السيرة الذاتية
محمد الإدريسي (1946–2003) فنّان مغربيّ من مواليد تطوان. بحسب أرملته ماريا لاردنت كاستيليرو، غالباً ما شعر الفنان "بالرفض" من قبل المجتمع بسبب خلفيته العرقيّة ووضعه الاقتصادي. نشأ الإدريسيّ في كنف عائلةٍ من الطبقة العاملة من منطقة الريف، منطقة في شمال شرق المغرب مهمّشة سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً. ولطالما صرّح بأنّ الشمال قد "هُجر" من قبل الملك الحسن الثاني، الذي حكم البلاد منذ العام 1961 وحتى وفاته عام 1999. درسَ الإدريسي بين عامي 1963 و1965 في المدرسة الوطنيّة للفنون الجميلة في تطوان (المعروفة اليوم بالمعهد الوطني للفنون الجميلة). واصل دراسته في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بباريس عام 1968، ومدرسة سان خورخي للفنون الجميلة ببرشلونة عام 1970، والأكاديمية الملكية للفنون الجميلة سان فرناندو بمدريد عام 1974. تبِعَ تعليمه تدريبٌ في مدرسة الفنّ والعمارة في بروكسل. كان الإدريسي معلّماً في مدرسة "ليسِه القاضي عياد" في تطوان ومدرسة الفنون والحرف في بامبلونا في إسبانيا، وقد نالَ تخصّصاً في العلاج بالفن من مدرسة الفنون البصريّة في نيويورك عام 1980.
ربط العديد من مؤرخيّ الفنّ المغربيين بين كفاحات الإدرسي الشخصيّة وموضوعات عمله وقيَمِه الشكليّة. لقد أكّد محمد رشدي بأنّ إبداعات الإدريسي "المتحررة" كانت ردّة فعل انتقاميّة من قبل الفنان تجاه والده العسكري المتزمّت والمتسلّط. ينتمي الإدريسي بحسب مصطفى شبّاك على صعيد "الروح" و"التجربة" إلى جماعة رائدة من المبدعين المغربيين الذين نشطوا في بداية السبعينيات والمدعوين بـ"شعراء النزوح أو المنفى". ضمّت هذه الجماعة التي عُرفت باسم "déracinés" أو "المهجّرون" شخصياتٍ مثل محمد شكري والجيلالي الغرباوي ومحمد خير الدين وعبد اللطيف اللعبي ومحمد لفتح ومحمد زفزاف. كان ما وحّد هؤلاء الفنانين والكتّاب هو ما دُعيَ بمصائرهم الفرديّة وغربتهم وميولهم للزعزعة والثورة ورفضهم لأيّ تنازل للمجتمع الراسخ. اعتقدَ الشباك بأن منحوتات ولوحات الإدريسي كانت تجليّاً لـ "التجربة الوجوديّة" و"الترحال" و"المنفى الداخليّ" و"الاغتراب الطوعيّ" للإدريسي إلى أوروبا، والذي انتهى بوفاته المأساوية في السابع من يناير كانون الثاني 2003، في إحدى محطات قطارات الأنفاق في باريس بفرنسا.
طوّر الإدرسيّ هويّته الفنيّة في السبعينيات والثمانينيات، أثناء فترة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسيّة في المغرب يُشار إليها باسم "سنوات الرصّاص" وذلك عندما كانت أي معارضة للدولة تُعدّ جريمة يُعاقب عليها. كان الإدريسي يشعر دوماً بأنّه مراقب وقد كانت له تجربة مباشرة مع انتهاكات الدولة. في عام 1977، أثناء إقامته في طنجة، تعرّض الإدريسي للاعتقال والضرب المبرح على يد الشرطة بسبب دفاعه عن بائع متجوّل كان يتعرض للمضايقة من قبل الشرطة. كذلك استُهدف العديد من أصدقائه المقرّبين خلال تلك العقود المظلمة. كان أحدهم المؤلف محمد شكري الذي خضعت روايته "الخبز الحافي" الصادرة عام 1972 للرقابة، وهي رواية استندت إلى تجاربه الشخصيّة مع الفقر والسجن، حيث تم حظر الكتاب من قبل وزير الداخلية إدريس بصري لغاية عام 1999. أشار شكري إلى أنّ الإدريسي لم يترك نفسه محدوداً بصفة الفنان، إنّما عبّر بشكل كلّيّ عن الحالة الإنسانية في عمله. بشكلٍ عام، عُرّفَ عمل الإدريسي من قبل مؤرخيّ الفنّ وأقرانه كنقد اجتماعيّ أكثر من كونه نقداً سياسياً صريحاً.
التحليل الشكلي
عمل الإدريسي بوسائط متعددة بما فيها الرسم والنحت والحفر، وفي السبعينيات، مالَ أكثر نحو التشخيص التجريدي. أخذ يصوّر شخصيات، غالباً ما تكون أنثويّة مذكّرة، وذلك بأسلوبه الخاص الذي تضمّن عيوناً مكبّرة أو مفقودة وأطرافاً ممدودة أو مبتورة وأيادي وأقدام مُضخّمة وتعبيرات مسكونة بالقلق أو الألم. كما معاصره عزيز أبو علي، الذي درس في تطوان أيضاً وتوفي بشكل مأساويّ في سنّ مبكّرة في مدريد، غالباً ما صوّرت أعمال الإدريسي ما أسماه جان فرانسوا كليمان "التشويهات الجسديّة". عكست موضوعاته ثقافة الاتهام والإذلال والقمع والخضوع التي عاش فيها في ذلك الوقت. نادراً ما أشار عمله إلى زمانٍ أو مكانٍ معيّنين، إنما قد اختار التمعّن في فكرة المعاناة العالميّة. يمكن القول إن الإدرسي قد تأثّر بالمجموعتين التعبيريتين الألمانيتين "الجسر" و"الفارس الأزرق" وفنانين مثل إميل نولده وإرنست كيرشنر وأوسكار كوكوشكا وإيغون شيلي وأوتو ديكس، والذين كانوا، مثل الإدريسي، منشغلين بحالة الإنسان الكونيّ والمأساة وحتى الموت.
غالباً ما استكشف الإدريسي في عمله موضوعات محظورة، بما في ذلك النساء العاريات والعمل بالجنس. لقد استكشف أيضاً الإفراط في استهلاك الكحول ضمن مشاهده عن الحانات. فضّل الإدرسي حسب عائلته وأصدقائه التواجد مع "الناس العاديين" والمنبوذين من المجتمع على الانخراط في خطابٍ فكريّ. خلال تواجده في طنجة، اختبرَ بشكل مباشر ثقافة الحياة الليليّة في المدينة وقام بتقديمها في أعماله. تبدو لوحاتٌ أُخرى شبيهةً بالأحلام، وتستكشف موضوعات مروّعة. على سبيل المثال، في لوحة "الهروب" بالألوان الزيتيّة على القماش من عام 1985، يظهر هيكلٌ عظميٌّ وكأنّه يمتطي حصاناً، وأجساد تُدهس على الأرض، كما عبّرت شخصيات عارية أخرى عن مستويات مختلفة من الصدمة والخوف والقلق. انتقل الفنان كذلك إلى ما هو أبعد من الرسم على القماش ليبدعَ محفورات ومنحوتات. استخدم الإدريسي في العديد من منحوتاته أشياء يوميّة مثل المجارف. في "Cuca" من عام 1986، تحوّلت ثلاث مجارف إلى رؤوس بشرية بعيون منتفخة وأنوف بارزة نابضة بالحياة، حيث جاءت أعمدة المجارف بدائل للأجسام. إلى جانب المجارف، غالباً ما قام الإدريسي بتضمين الآلات الموسيقيّة في أعماله الفنيّة كتلك التي استعارها من متجر جدّة زوجته للموسيقى في طنجة. تتباين مجموعاته اللونية الجريئة بشكل صارخ مع المزاج القاتم ومع الموضوعات الموجودة في أعماله.