السيرة الذاتية
وُلدت صفية فُضيلي فَرحات لعائلة عريقة في رادس، مدينة ساحلية في الضواحي الجنوبيّة لتونس العاصمة. تُعتبر شخصيّةً رياديّةً حداثيّة، وقد سطع نجمُها خصوصاً لمناصرتها حقوق المرأة ولفنّها الذي يدمج فنّ النسج والتصاميم مع الممارسات الحِرَفيّة المجتمعيّة. تدرّبت على فنّ الرسم وكانت أيضاً مديرةً فنيّة ومعلّمة انخرطت في العديد المبادرات الفنيّة مثل التكليفات الفنيّة العامّة من قبل الدولة في تونس. كانت فرحات من أوائل النساء التونسيات اللاتي حصلنَ على تعليمٍ فنيّ رسميّ. أتمّت تعليمها الأساسيّ في المدارس الفرنسيّة الاستعماريّة، وتخرّجت عام 1952 في مدرسةِ الفنون الجميلة في تونس.
كانت فرحات عضوةً في "مدرسة تونس"، وهي حركة فنيّة تأسّست عام 1948 تحت إدارة الفنان الفرنسيّ تونسيّ المولد بيير بوشيرل (1894–1988) مستخدماً مفهوم "الفنان كحِرَفيّ" حسبما وضَعه سياقيّاً مؤرخون مثل جيسيكا غيرشولتز. كانت فرحات المرأة الوحيدة في "مدرسة تونس" والتي ضمّت فنانين تونسيّين وأوروبيّين بارزين، مثل بيير برجول (1897–1990)، ويحيى تركي (1903–1969)، وجلال بن عبد الله (1921–2017)، وعبد العزيز قرجي (1928–2008). عبر اشتغالها هي ذاتها بالحِرَف اليدويّة، أعادت فرحات بفاعليّة تعريف معنى أن يكون المرء فناناً ووسّعت حدود الحداثة. رفضتْ مدرسةُ تونس التسلسل الاستعماريّ الهرميّ للفنّ الذي يبخس الحِرَفَ والفنونَ المحليّة قيمتها. لذا، ركّز فنانوها على الزخارف التي دمجت ما بين العمارة الإسلاميّة والفنّ الرومانيّ القديم. توافق ذلك مع التزام فرحات المستقلّ باعتناق الأصالة والحِرَف اليدويّة كتعبيرٍ فنيّ مشروع. عكَس اختيارها للموضوعات والوسائط تلك الانطباعات. لقد لجأتْ إلى الفسيفساء والأفاريز والنسجيّات والجداريات ولوحاتِ التصوير الجصيّ لتقديم هيئاتٍ حديثة متنوّعة مبنية على قصص شفويّة يونانيّة وعربيّة قديمة.
تتميز أعمالُ فرحات المبكّرة بعناصر ملوّنة، بالأبيض والأسود أحياناً، مع التشخيص والحيوانات ورموز الكدّ والسرد التاريخي من منظور تونس الاشتراكيّة. أحد أبرز الأمثلة على ذلك اللوحة الجداريّة المقتبسة من الأسلوب الواقعيّ الاشتراكيّ، والتي أنجزتها حوالي عام 1963 في الشركة التونسيّة للسكر في باجة. يصوّر هذا العمل عامليَن يحملان أدواتٍ ويقفان بشموخ على خلفية زرقاء ساكنة. يواجه الرّجلُ على اليمين المتفرّجَ مرتدياً شاشيّةً حمراء (طربوش)، وهي غطاء رأسٍ تقليديّ من الصوف. يداه تمسكان بالأدوات، وتبدو إحداهما مرفوعةً في حركة قد توحي بالرخاء الاقتصادي، فيما يشابه إيماءات الدعاء في اللوحات الدينيّة والاحتفاليّة. عدا عن ذلك، فإن معظم أعمال فرحات في منتصف القرن العشرين يركّز على النساء كموضوعاتٍ قدسيّة في الأساطير والتاريخ.
في عام 1959، أنشأتْ فرحات مجلة "فائزة" (1959–1967) الإفريقيّة ما بعد الاستعماريّة. في البداية، ركّزت المجلّة على الفنون الزخرفيّة وقضايا المرأة، ثمّ توسّعت لتشمل وجهات نظرٍ نسويّة أكثر اتساعاً. إن تحولاً كهذا لم يكن ليتحقّق لولا وجود شخصيات نسويّة فاعلة في هيئة التحرير، بمن فيهم الصحفيّة والمناضلة القوميّة درّة بوزيد (1933–2023)، التي انضمّت إلى المجلة عام 1960 مع سامية بن عمار المديرة المشاركة وجوزيت بن براهم وأخريات. لقد وضعنَ معاً الأساس الأدبيّ للخوض في التغيير الاجتماعيّ والسياسيّ في عهد الرئيس بورقيبة. كثّفت فرحات أنشطتَها خلال التحوّلات السياسيّة في الخمسينيات، والتي شملت تبنيّ نسويّة الدولة والانفتاح الاقتصاديّ والبرنامج القوميّ المناهض للاستعمار. كانت هذه العوامل هامّةً للغاية في العمل الجماعيّ والتأكيد على المساهمات التي قدّمتها المرأة التونسيّة التي كانت قد وصلت إلى مناصب قياديّة. ومن الجدير بالذكر، أنّ النساء في دائرة فرحات كنّ في كثير من الأحيان جزءاً من طبقة مثقّفة منخرطة في السياسة أو متزوجات من سياسيين. لقد تزوجت في عام 1944 من عبد الله فرحات (1914–1985)، سياسيّ شغل عدّة مناصب حكوميّة رفيعة، وكان عضواً للمكتب السياسيّ للحزب الاشتراكيّ الدستوريّ. من خلال ممارستها "للعمل النسائيّ"، رمَت إلى مواجهة النخبويّة وإلى تعزيز التعاون بين النساء من مختلف الخلفيات الاجتماعيّة.
بحلول عام 1958، أصبحت فرحات أوّل امرأة تُعرض عليها وظيفة التدريس في مدرسة الفنون الجميلة، وهو العام ذاته الذي حصلت فيه تونس على استقلالها عن فرنسا في ظلّ حكم الحبيب بورقيبة. أدارت الفنانة أتوليه الفنون الزخرفيّة من عام 1958 إلى عام 1964، وركّز تدريسها على الحِرَف اليدويّة استجابةً لبرنامج بورقيبة. عملتْ فترة طويلة مع عبد العزيز قرجي الذي كان يترأس قسمَ الخزف، وكثيراً ما اشتركا في التدريس. في عام 1963، شاركت فرحات مع قرجي في تأسيس "شركة زِن" للتصميم والتي عزّزت التطور الاقتصادي لشركائها. بالتعاون مع العديد من الحِرَفيين، أنشؤوا جدارياتٍ ضخمة بموجب تكليفاتٍ من الدولة، وزيّنوا مدارس ومباني حكوميّة وأماكن سياحيّة. ويجدر القول إن جدارياتٍ مثل تلك الموجودة في شركة السكّر التونسيّة وفندق النخيل في المنستير والمعهد الوطنيّ للإنتاجيّة في رادس، لعبت دوراً في تعزيز دور المرأة في القوى العاملة.
في عام 1966، عُيّنت فرحات مديرةً لمدرسة الفنون الجميلة، لتصبح أوّل تونسية وأوّل امرأة تترأسها. شغلتْ المنصب حتى عام 1973، وشرَعَت بإصلاحات كبيرة وأعادَت هيكلة المقرّرات الدراسيّة. في عهدها بدأ الطلاب في الحصول على درجة جامعيّة وشهادة. لقد أثّرت بشكلٍ فارق على طلّابها وزملائها، حيث عملَت مع الحِرفيين لتعليم تقنيات النسيج ونظّمت حلقاتٍ دراسيّة من أجل توسيع معارفهم بالتصميم والحرف اليدوية المحليّة. وجرى تبادل تلك المعارف أيضاً من خلال التعاون مع العديد من الجمعيات بين الستينيات والسبعينيات، بما فيها المكتب الوطني للحرفيّين التونسيين. حاوَلت فرحات أن تخلق رابطاً بين الفنانات كحرفيات والعكس عبرَ طرق التدريس الأكاديميّة وغير الأكاديميّة.
تتمايز تصاميم فرحات ورسوماتها من السبعينيات. لقد استخدَمت الأيَقنة لإبراز خصائص مثل الوشم والحناء التونسيَّين موظّفةً الأنماط المنقّطة لإعادة تقديم التصاميم ذات المظهر الفانتازيّ. اعتمدت في أسلوبها بالتعامل مع المواد على عمليات النسج والزجاج التقليديّة التي تذكّر بالتحف الأثريّة. غالباً ما أشارت هذه الأعمال إلى شخصيات من الأساطير. تصوّر العديد من تمثيلات فرحات الملكة بينيلوب من ملحمة هوميروس، رمز الإخلاص وابنة ملك إسبرطة. بالإضافة إلى ذلك، تستعيد بعض الرؤى الملحمية القصص في حكايات بني هلال، وهي مجموعة من القبائل التي هاجرت إلى شمال إفريقيا خلال العصرين الأمويّ والعباسيّ.
في الثمانينيات، تميزت أعمال فرحات بتصويرها الاحتفائي بالنساء التونسيّات، حيث قدمتهنَّ كشخصيات بطوليّة مفردة، مرتدياتٍ فساتين الزفاف والأزياء القديمة على خلفية من النباتات المحليّة والعمارة التقليديّة لشمال إفريقيا، وهو ما يظهر في الطوابع التي صمّمتها للبريد التونسيّ. لقد ابتكرَت منسوجات سجّاد شبه تجريديّة ثلاثيّة الأبعاد، وطبّقت العناصر بمهارة لإنشاء تأثيرٍ يشبه الكولاج. تُقدم بعض لوحاتها الثنائية اللّافتة، مثل عمل "قفصة وخارجها" (1983)، عناصر تبدو عضويّة تنبثق من الخيوط، مصحوبة بمنسوجات تصور نقوشاً قديمة. عادت أعمالها اللاحقة إلى التصوير الواقعيّ مع القصص الأسطوريّة، فيما يشبه لوحاتها في أواخر الخمسينيات.
بين السبعينيات والتسعينيات، عادت فرحات إلى تقّلد أدوار قياديّة مختلفة وانخرطت في الأنشطة المدنيّة. أدارَت "الجمعيّة التونسيّة للنساء الديموقراطيات" والتي لعبت دوراً جوهريّاً في تأسيسها. في عام 1982، أسّست فرحات وزوجها عبد الله "مركز الفنون الحيّة" في تونس. بالإضافة إلى ذلك، شغلت منصب رئيسة "جمعية الفنانين التشكيليين وهواة الفنّ" في تونس، التي نظمّت بانتظام منذ عام 1948صالونات فنيّة في تونس.
توفّيت صفية فرحات عام 2004، لكنها ما تزال شخصيّة حداثيّة جدليّة، تحدّت باستمرار القيم الحداثيّة التقليديّة. تركت بصمةً عميقة على العديد من الحركات الفنيّة والنسويّة. في عام 2016، افتُتحَ متحفٌ مخصّص لفرحات، يعرض أعمالها الفنيّة مغطيّاً أعمالها ابتداءً من أوائل الستينيات. يضمّ المتحف إرثها الهام، ولا تزال الفنانة عائشة الفلالي ابنة شقيقتها تحافظ على تقاليدها. اكتسبت أعمال فرحات مؤخّراً المزيد من الاعتراف الدوليّ، من ضمن ذلك بينالي البندقية التاسع والخمسون عام 2022.