السيرة الذاتية
ولِدت تَمام الأكحل عام 1935 في مدينة يافا الساحليّة في الجنوب الغربي من فلسطين. ترعرعت في أسرة من الطبقة المتوسطة التجأت إلى لبنان عام 1948 عندما كانت الأكحل في الثالثة عشرة من العمر، وذلك بعد احتلال عددٍ كبيرٍ من القرى الفلسطينيّة. قضت الأكحل سنوات نشأتها قبل الحرب في بيارات البرتقال خلال مواسم الحصاد الشهيرة في يافا. يافا تلك المدينة المتميّزة المتأصّلة عميقاً في الثقافة والخيال الشعبييَن. كانت دوماً موضوعاً رئيسيّاً في حياة الأكحل ولوحاتها. والتي قد ألِفَت منذ سنّ مبكرة الأقمشة والمواد الممكن استخدامها كعناصر فنيّة. اتخذت الأكحل في سنواتها الأولى في لبنان وظائفَ كان منها تصميم الرسومات للتطريز في مصنعٍ للنسيج. في عام 1950، حصَلت على منحةٍ دراسيّة في "مدرسة المقاصد الإسلامية للبنات" في بيروت التابعة لجمعيّة خيريّة من القرن السابع عشر، مما مهد لها الطريق للمشاركة في المعارض الفنيّة التي كانت تُنظّم من قبل اليونيسف واليونسكو في لبنان. لاقَت مشاركة الأكحل استحساناً، وطبعت المنظمات أعمالها الفنيّة ووزعتها على بطاقات بريديّة. نال عملها هذا اعترافاً من قبل عضو لجنة التحكيم في اليونسكو الألماني ستيفان لوكاس والذي دعمَ تعليمها ماليّاً. حوّل هذا التشجيع فضول الشابّة الأكحل وتركيزها من الرسم بالألوان المائيّة والباستيل إلى الرسم الزيتيّ.
حظيَت الأكحل أيضاً باهتمام الرسام اللبنانيّ الشهير مصطفى فروخ (1901–1957)، الذي أوصى المدرسة بمنحها منحةً دراسيّة لمتابعة الفن في مصر أكاديمياً. كانت تلك فترةً جوهريّة في حياتها. في مدرسة الفنون الجميلة المصريّة بين عامي 1953 و1959، أنشأت الأكحل علاقات وطيدة مع أساتذة الفن البارزين في ذلك الوقت مثل راغب عياد (1892–1982)، وجاذبيّة سرّي (1925–2021)، وحسين بيكار (1913–2002)، وجمال السجيني (1917–1977) وزينب عبد الحميد (1919–2002). كانت تتابع في الوقت ذاته أعمال الروائيّ اللبنانيّ جورجي زيدان، المؤسّس المشارك لمجلة "الهلال" الثقافيّة اللبنانيّة الشعبيّة، والمعروف بآرائه السياسيّة في حركة النهضة العربيّة، وقد ساهم ذلك في رؤاها فيما يتعلّق بتشكيل حركة الفن الفلسطينيّ الحديث. من بين الزملاء، كوّنت صداقة قوية مع وفاء بركات، ابنة ناشطة في مجال حقوق المرأة والتي ربطتها علاقات وثيقة بالقائدة النسويّة هدى شعراوي. خلال تلك الفترة، التقت الأكحل بإسماعيل شموط (1930–2006)، وهو فنان فلسطيني زميل، تركت وجهات نظره الفنيّة ودعواته صدى لديها.
في تلك الفترة استخدمت الأكحل الألوان المائيّة والزيتيّة لتمثيل القصص اليوميّة وفلسطين ما قبل النكبة. أظهرَت أعمالها في الخمسينيات مناظر طبيعيّة للبلدات البسيطة من لبنان ومصر، ولمخيمات اللاجئين إلى جانب بورتريهات واقعيّة لأفراد عادييّن من الطبقة العاملة. تزامنت هذه الفترة من التطور الفنيّ لاحقاً مع الصراعات السياسيّة العديدة التي أحاطت بالأكحل، بما في ذلك حرب الجزائر والصراعات الدينيّة في لبنان وأزمة السويس في مصر ومذبحة خان يونس في فلسطين المحتلّة. إلى جانب بحثها الجماليّ القائم، أثّرت تلك الأحداث على عملها، كما هو الحال في العمل الشهير "مذبحة خان يونس" الذي جسّد العذاب الناجم عن العنف. تهيمن على اللوحة الألوان الليليّة الأزرق الداكن على خلفية حالكة. تندمج جموع الشخصيّات وتعكس وجوههم الرعب الذي عبّر عن صدمتهم الجماعيّة. إنّ لعمل "مذبحة خان يونس" مغزى هامّ، حيث يصوّر الطبيعة المباشرة للعنف، مع أنّه يتجاوز المباشرة لكونه يعالج مصاباً تاريخيّاً. ظلّ هذا النهج موضوعاً حاضراً طوال حياتها المهنية. في عام 1954 دُعيت الأكحل من قبل أستاذها فوزي الغصين للمشاركة في معرض إلى جانب إسماعيل شمّوط. سلّطَ العرض الذي حمل عنوان "اللاجئ الفلسطيني" الضوء على نضال الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي وطالب بحريّتهم. قادَ هذا المعرض البارز الذي افتتحه الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر إلى تعزيز أسلوب الأكحل الفنيّ في الرمزيّة السرديّة داخل المجتمع الأكاديميّ والفنيّ. كانت الأكحل أيضاً مشاركة نشطة في التجمّعات التي نظمّها الاتحاد العام لطلبة فلسطين ضمن الحرم الجامعي، وهي منظمّة تأسّست في القاهرة وقادت إلى إنشاء منظمة التحرير الفلسطينيّة. اختارت الأكحل عدم العضويّة في الاتحاد خلال هذه التجمعات الطلابية، إذ كانت ترغب في البقاء محايدةً سياسياً وفنياً. نشأت مع ذلك بين عضو الاتحاد الطلابيّ ياسر عرفات والزوج الأكحل وشمّوط صداقة في السنوات اللاحقة. وعندما أصبح عرفات رئيساً لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، عيّنَهما لإدارة القسم الثقافيّ في دائرة الإعلام لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأدارت الزميلة الفنانّة الأردنيّة منى السعودي قسم الفنون التشكيليّة. عمل الفنانان في عمان ثمّ في بيروت حتى عام 1983. شملت مسؤوليات الأكحل الأساسيّة اقتناء وجمع الملابس التقليدية ضمن إطار مبادرة المنظمة في حفظ الثقافة، كما نظّمت معارض متنقّلة للترويج للفنون التقليدية.
في عام 1957، دُعيت مجموعة من الطلاب من مصر، من ضمنهم 15 فلسطينيّاً، للمشاركة في النسخة السادسة من المهرجان العالمي للطلاب الشباب في موسكو، وقد كانت الأكحل ضمن ذلك الوفد، وهو ما افتتح علاقتها مع الاتحاد السوفييتي. في عام 1959، ارتبطت الأكحل بشمّوط، وكان شمّوط في ذلك الوقت آخذاً في اكتساب شهرة إقليميّة وكان يعمل في تصميم كتب الأطفال في بيروت. بدأ الاثنان بعرض أعمالهما الفنيّة معاً مُبتدأََين من النادي الثقافيّ العربيّ في بيروت. إضافة إلى ذلك، قاما باستضافة العديد من التجمّعات في منزلهما، ودعوة الكتاب والسياسييّن والفنّانين والصحفييّن، مما نمّى تجمّعاً فكرياً أدى إلى تعميق المساعي الفنيّة والتضامن. عمل الفنانان معاً لسنوات لاحقة. قاما بابتكار عملٍ تحاوريّ، بين فنّ شمّوط السياسيّ الذي استخدام الواقعية السحريّة والتصوير التعبيريّ للأكحل. من أعمالهما الشهيرة "فلسطين: الخروج والأوديسّا Palestine: The Exodus and the Odyssey " الذي تضمّن 19 قطعة أُُنتجت بين عامي 1997 و2000.
استمرّ بحث الأكحل الفنيّ ضمن هذا السياق السياسيّ التاريخيّ إلى ما هو أبعد من العمل الفني. خلال تلك الفترة، تلقّت الأكحل عرضاً لتدريس الفنّ في مدرسة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينييّن (الأونروا) في بيروت. وبعد فترة وجيزة، عام 1962، دُعيت أيضاً لتعليم الفنّ في فلسطين. أثناء تواجدها في غزّة ورام الله، افتُتنت بأعمال النسّاجين المحلييّن وبدأت بتجميع مجموعة من قطع التطريز الخاصة بهم. انعكست الرمزيّة السياسيّة الفريدة لهذا التطريز في لوحاتها بمهارة، وظهرت لاحقاً ضمن الموضوعات الصناعيّة التي أشادت بعمّال النسيج. في رام الله، عاشت قريباً من الفنانة سامية الحلبي (1936–) والتي أُعجبت بعمق بأعمال الأكحل، واستمرّت بهذا الإعجاب حتى بعد مغادرتها فلسطين.
خلال ذلك الوقت، شرَعت الأكحل مع شمّوط عام 1964 بسلسلة من المعارض المتنقّلة في أنحاء الولايات المتحدة، جالت في 12 ولاية بدعم من اتحاد الطلبة العرب الأميركيّين. في العام ذاته، عرضا أعمالهما في القدس في القمّة العربية. أفضَت حرب الستة أيام عام 1967 إلى توسيع المستوطنات الإسرائيليّة وتسبّبت في تصاعد التوترات السياسيّة في المنطقة. كردّ فعل، وسّع قسم الفنون في منظمة التحرير الفلسطينيّة مبادراته الثقافيّة بزيادة الإنتاج الفنيّ واسترعاء التضامن الدوليّ، والتي انخرط فيها كلّ من الأكحل وشمّوط. في عام 1968، طلب عرفات من الزوج الأكحل وشمّوط اختيار فنانين للمشاركة في المهرجان الدوليّ للشباب الذي أقيم في بلغاريا. لقد كانت تلك بمثابة خطوة فارقة للأكحل، حيث ظهرت أعمالها في بيئة دوليّة جديدة بين فنانين سياسيّين. مهّدت الدعوات اللاحقة الطريق لإقامة معارض في أنحاء أوربا، ودول مثل الصين، والعراق، واليابان، وتونس. أقامت الأكحل أيضاً لفترة قصيرة في جمهوريّة ألمانيا الديموقراطية وحصلت على دعم الحكومة الألمانيّة التي رَعت معرضهما المتنقّل عام 1975.
رغم اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانية (1970–1990)، افتتحَ اتحاد الفنانين الفلسطينيين بقيادة شمّوط ومساعدة الأكحل في بيروت مساحةً فنيّة سميت "دار الكرامةَ". بموقعه بالقرب من جامعة بيروت العربية، استضافَ المكان العديد من المعارض الهامّة حتى إغلاقه عام 1982. وبرغم الحرب، استمرّا في مقابلة الفنانين والوفود الدوليّة من جميع أنحاء العالم. استمرّت مشاركة الأكحل في المعارض في أواخر السبعينيات، مع عروضٍ بارزة في موسكو وبرلين وقاعات الأمم المتحدة في بيروت. تميّز نهج الأكحل الفنيّ في الثمانينيات والتسعينيات بتصوير التجمّعات الشعبيّة الفلسطينيّة للأطفال، والنساء أثناء الحصاد، والمشاهد النوستالجيّة التاريخية. صوّرت أيضاً عناصر تبعث الأمل والمقاومة من خلال تضمين مناظر طبيعية سوريالية. تعمّقت رمزيتها المتأصّلة في التقاط الجذور الحميمة لبيئة الفرد المرتبطة بالثقافة العربيّة. مع الانتقال إلى الألفيّة الثالثة، اتخذت هذه التجربة منظوراً خلّاقاً، قدّم نظرةً زمنيّة ثنائيّة. أتَت المناظر الطبيعيّة الحضريّة في مفارقة حادة مع البيئات التقليديّة، وظهرت في تقنيّة الطبقات لسرديّاتها البصريّة أنماط جديدة من القَصَص التجريديّ، مثل الحروفيّة والحيوانات شبه المجرّدة كالخيول التي دلّت على الرِفعة.
بعد الحرب اللبنانيّة، انتقلت الأكحل إلى الكويت في الثمانينيات. لقد ساهَمت في المجتمع الفنيّ المحليّ والتقت بفنانين من بينهم نبيل قانصو (1940–2019) ودرّست حتى أوائل التسعينيات. دفعتها بداية حرب الخليج (1990–1991) إلى الانتقال التالي. سافرت أولاً إلى كولونيا، ثم إلى عمّان عام 2000 بدعوة من سهى شومان (1944–) المؤسّسة المشاركة لدارة الفنون (عام 1994) وبدعم من الأميرة والفنانة وجدان علي (1939). أثّرت وفاة زوج الأكحل عام 2006 فيها عميقاً. شكّل هذا الحدث نقطة تحوّل في تعبيرها الفنيّ، حيث أدخلَت الكتابة كوسيلة إضافية لتوثيق حياتها من خلال الكلمة المكتوبة مع الاستمرار بالالتزام الحِرَفيّ بالواقعية المجردة. تُواصلُ الأكحل المساهمة في المجتمع الفنيّ وإيصال صوت جيلها ومَن بعده. وهي تقيم وتعمل في عمّان منذ انتقالها إليها.